تيسير الجمهورية لأفلاطون
السيد عبد المطلب أحمد غانم
كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
جامعة القاهرة
1999
المحتويات
مقدمة
الكتاب الأول
الكتاب الثاني
الكتاب الثالث
الكتاب الرابع
الكتاب الخامس
الكتاب السادس
الكتاب السابع
الكتاب الثامن
الكتاب التاسع
الكتاب العاشر
كثيرا ما دلفت إلي " الجمهورية " ألتقط منها تارة فكرة وتارة عبارة، وتارة أبدد فراغا وتارة أتأمل، وما قرأتها أيام الدراسة النظامية إلا مرة واحدة، قراءة متطفل، يعجب بالأسلوب أكثر من أن يجمع عناصر الفكرة والموضوع، فما تعودنا أيام الدرس الرجوع إلي الأصول إلا في النذر اليسير، حتى المؤلفات العربية التي كنا نطلع عليها، اكتشفت بخبث الطالب أن أصحابها لم يمعنوا النظر في نصوص أصلية.
أخذت في عقد التسعينيات أدرّس مقرر " النظرية السياسية" لطلاب الماجستير والدكتوراه، وجعلت موضوعنا سؤالا محوريا: " العدالة والمساواة والحرية، أتصح أعمال الحكومة العصرية؟"، ولا أنكر خبث هذا السؤال، ولا نبله، فنبله مستمد من كونه ردا علي من ادعوا " أن النظرية السياسية قد ماتت أو علي فراش الموت"، ومن كونه درسا لمن يدرسون النظرية السياسية والفكر السياسي وكأنهما أفكار عفي عليها الدهر، أفكار لأناس ماتوا، ولعصور مضت، ومن كونه توجيها لمن يتعاملون مع التراث الإسلامي، أما خبثه فمرده أنه، مع إخلاص النية وحسن الطوية والتزاما بالموضوعية، يكشف عن مراكز أتبناها إزاء ما يجري علي الساحات المصرية والعربية والإسلامية، في دعوة إلي التعقل، وخروج من أسر الوقائع المتغيرة، وتدبر ما سنفعل قبل أن نتورط فيه.
حينئذ كلفت طلابي بقراءة " الجمهورية"، فلمست منهم ما تذكرته عن نفسي؛ " آفة الالتقاط"، فراجعت المطبوعات العربية مرة أخري، فكان حزني أعمق وأشد، حزن مبعثه اعتمادها علي كتابين أو ثلاثة في الفكر السياسي عموما، ونقص تمعن النصوص الأصلية، فبحثت عن الترجمات العربية للجمهورية، فتذكرت واحدة رجعت إليها أثناء الدراسة النظامية، وهي ترجمة بتصرف، قامت بها نظلة الحكيم ومحمد مظهر سعيد، وأخري هي ترجمة كاملة، قام بها الدكتور فؤاد زكريا، وراجعها علي النص اليوناني الدكتور محمد سليم سالم، وتسبقها دراسة أقل ما يقال عنها أنه ينبغي لكل دارس لفكر أفلاطون أن يفحصها لا أن يقرأها، وكنت أقتني ترجمة إلي الإنجليزية لمحاورات أفلاطون لأستاذ ترجم الإلياذة والأوديسا، وهو روس، فكانت فرصة طيبة أن أقارن النصوص الثلاثة، وقد وجدت تباينات، لا أقول أخطاء، ترجع في أصلها إلي صعوبة الإلمام بالجمهورية، وهي صعوبة ترجع أصلا إلي كون الجمهورية كتابا يمكن النظر إليه من أكثر من زاوية، أعني أنه يمكن إعادة بناء " الجمهورية " في أكثر من حجة، كل حجة تغطي العمل بأكمله، كما سنوضح فيما بعد، وإلي أن أسلوب " الجمهورية " كمحاورات، يتطلب قبل الخوض فيها فهم هذا الأسلوب؛ " الديالكتيك"، وإلي أن الدارسين والمترجمين لم يخلصوا النص من التأثيرات البيئية، أعني جعلوا النص أسيرا للبيئة، ولم يجعلوه بناء فكريا، يتتبع من داخله، وليس مما أحاط به، وهذا مركز قد لا يوافقنا عليه كثيرون، ولكنه مرمي " النظرية " عموما.
قررت وضع " الجمهورية " في صورة مبسطة، لا تخرج عما كتب صاحبها، ولا تبتسر مما خط جوهريا أو مهما، لا أنشد أن تكون سهلة القراءة، وإنما أن تكون سهلة الفهم، واضحة البناء، فبنيتها طبقا " لأسلوب الديالكتيك" الذي ذكره أفلاطون في الكتاب السابع، واتخذت من " الحياة الطيبة" حجة محورية، واجتهدت في أخذ مقتطفات من النص مع ذكر صفحات الإحالة إلي نص أفلاطون بين قوسين، كما وردت في ترجمتي روس وفؤاد زكريا، ولا أدعي لهذا العمل كمالا، فقد استبعدت كثيرا من الحجج الصغيرة، وأعدت بناء الكثير من الحجج الصغيرة إلي مقدمات، وتجاهلت الكثير من الأسماء والأعلام والأقوال المقتبسة فيها، وما أحسب هذا العمل إلا مجرد درس، أعتقد أن نفعه أعظم من ضرره.
أسلوب سقراط: الديالكتيك هو أسلوب سقراط، وأهم خصائص من يستعمله ، والتي تحدد خطواته هي:
يبدأ بتفنيد ما يسمي " بالفروض البديلة"، فإذا ما تم ذلك أخذ في تبرير الفرض الأصلي، وكان نصب عيني المحاور ثلاثة أسئلة: ( 1 ) هل المركز مبرر؟ أي: ما هي أسباب اعتقاده؟ وهل هي صادقة؟ وهل تعزز المركز؟ ( 2 ) ما هي عواقب المركز؟ أي: ماذا يصدق إن كان صادقا؟ أتثار تساؤلات عن المركز نفسه؟ ( 3 ) ما الاعتراضات التي يمكن أن ترد علي المركز؟ وكيف يستجاب لها علي أفضل نحو؟
وهنا يلاحظ علي أسلوب سقراط في هذه المحاورة: أولا، يطلب التعزيز لمركزه من شخص واحد، الذي يحاجه، ثانيا، يعبر عن الرفض بالسخرية اللاذعة، ثالثا، يطرح كثيرا من الأسئلة تقريرا لا استفهاما، رابعا، ينتقل بين مقدمات الحجة تدريجيا، فإذا احتاجت مقدمة إلي إثبات، استطرد واضعا لها حجة، ثم يعود إلي الحجة الأصلية.
بناء " الجمهورية " : اقترح علي الأقل بناءان للجمهورية؛ أحدهما محوره النفس البشرية، والثاني محوره السياسة، وهذان التصنيفان لا يغطيان كل العمل، وأعيد بناءها طبقا للسؤال المحوري الذي وجهه سقراط إلي كيفالوس: " أود أن أسألك، مادمت قد بلعت تلك المرحلة التي يسميها الشعراء ‘بمشارف الكهولة’، عما إذا كنت تجد طريق الحياة شاقا، أم لديك رأيا آخر" ( 328).
فمحور " الجمهورية " الحياة الطيبة للفرد التي لا تتحقق في عزلة، وإنما في دولة، وما طبيعة الدولة إلا الطبيعة الغالبة للأفراد، ومن ثم يكون الموضوع المحوري الأخلاقية، والفضيلة المحورية في الأخلاقية العدالة، ومرماها " الخير"، ومن ثم تسير الحجة علي النحو التالي:
أعتقد أن هذا مخطط جيد للحجة، وأترك ملأه لاجتهاد القارئ، ولتدريب طلابي في قاعة الدرس.
وتجدر الإشارة إلي أن أفلاطون كان يهاجم ثلاث أطروحات للسفسطائيين: أن القيم نسبية، فإذا بدا لك شيء صوابا/ خيرا فهو صواب/ خير بالنسبة إليك وليس هناك فجوة بين الظاهر والواقع، وأن الفضيلة هي الخيار الثاني الأفضل؛ فذو القيمة وسيلة إلي مكافأة اجتماعية أعظم، وأفضل خيار هو العيش الرغيد، وأن القواعد الخلقية مفاهيم اجتماعي تواضعية بحتة.
وتجدر تذكرة القارئ العادي أن هذا العمل به أمور تقتضي منه التفكير، وأمور لن يشق عليه إدراك فسادها، كتعدد الآلهة، والزواج الموسمي، وغير ذلك، ولكن هذا نص له قيمته إن تدبرنا معاني ما فيه من حجج، وحررنا تفكيرنا من الوقوف علي الأقوال الجزئية، أما بالنسبة إلي الدارس فلعل هذه فرصة أن يعيد بناء الحجج الجزئية، كيما يتعلم بعض طرق التفكير.