النظرية السياسية النفعية

 

 

 

السيد عبد المطلب أحمد غانم

كلية الاقتصاد والعلوم السياسية

جامعة القاهرة

 

 

 

 

 

2001

 

مسودة ليست للاقتباس

 

المحتويات

1. القياس مشكلة نظرية المنفعة الأبدية     *

الأصل التاريخي     *

المذهب الكلاسيكي في المنفعة: بنثام وميل     *

مذهب المنفعة المعاصر     *

2. التعبير الخلقي عن النفعية ( مخطط )      *

الأنانية السيكولوجية     *

الأنانية الخلقية     *

النفعية ( مذهب المنفعة)     *

نظرية الصواب: تنويعة مذهب العواقب     *

نظريات الخير: تنويعة المنفعة     *

3. دفاع ميل عن مبدأ المنفعة     *

تفنيد حجة ضد ميل     *

مشكلة معيار الصواب والخطأ     *

ما هي النفعية؟     *

الجزاء النهائي لمبدأ المنفعة     *

ما نوع البرهان المتاح لمبدأ المنفعة؟     *

4. المنفعة والعدالة     *

العدالة الكلية والجزئية     *

أسس العدالة عند ميل     *

ما الذي نصفه بالجور؟     *

الإحساس بالعدالة والإحساس بالملاءمة     *

فما هو الحق؟     *

مكانة المنفعة من العدالة     *

بعض مضاعفات حجج ميل     *

الحقوق والواجبات     *

5. المنفعة و"الحرية"     *

حجة ميل العامة: ما أراد عمله وكيف عمله     *

حرية الفكر والمناقشة     *

حرية الفعل الفردي     *

تطبيقات عملية لمبدأ الحرية     *

6. المنفعة والحكومة التمثيلية     *

نظام الحكم بين الاختيار والحتمية     *

معيار نظام الحكم الصالح     *

الحكومة الفضلى هي الحكومة النيابية     *

الظروف الملائمة لقيام الحكومة النيابية     *

الشعب صاحب السيادة     *

مخاطر تتعرض لها الحكومة النيابية     *

مواجهة المخاطر     *

7. النفعية وخضوع النساء     *

التشكيك في قضية تبعية المرأة للرجل     *

أسس التغيير المنشود     *

الخير المتوقع     *

 

(جزء من الفصل:) 5. المنفعة و"الحرية"

يبدو مبدأ الحرية لميل أكثر إقناعا إذا أولناه كقاعدة قيمية للحرية، أي يوصّف منطقة لعدم التدخل، مجالا للفعل، لا بسطا لمنطقة تدخل، فطبقا لتعريف آسيا برلين؛ تعريف ميل سلبي، يعني بتحديد المنطقة التي يسمح للفرد فيها أن يتصرف كما يشاء دون إعاقة، وتصبح القضية كيف برر ميل التقييد القانوني.

والسؤال الثاني إلي أي مدي تتوافق نظرية ميل في الحرية مع النظرية النفعية، وكيف استعمل المقايسة الجمعية للقيمة؟

حجة ميل العامة: ما أراد عمله وكيف عمله

قسم ميل نظرية الحرية إلي قسمين: يتعلق الأول بحرية الفكر والمناقشة، فيعالج تحرر الفرد في التعبير عن آرائه، والمشاركة في المناظرات والحجج العامة والفكرية والسياسية والدينية، وتحرر النشر، ويناقش الثاني حرية الفعل، فيحاول تعليم المنطقة التي يكون فيها الفرد حرا أن يتصرف طبقا لإرادته، لآرائه، لفكره، وفي كليهما يظهر للقارئ منافع الحرية.

وضح ميل بجلاء ما أراد عمله في المقدمة، إنما أراد توطيد مبدأ: لا ينبغي للمجتمع التدخل في حرية الفرد في القول وفي الفعل إلا في الحالات الضرورية " للحماية الذاتية" ( للمجتمع ) وتعادل " منع الإضرار بالآخرين" فسعى إلي استبعاد فئة من الحجج لصالح التدخل في الحرية: عمل هذا يدعم " صالح الآخر ماديا أو معنويا"؛ وسعى لتوطيد معيار واحد لتبرير التدخل في الحرية: " عندما تسفر عن شر لشخص آخر"، عندما تضر شخصا آخر، وقدم أمثلة لأفعال شعر أنها لم تضر إلا الفرد، لكنها كانت في أيامه غير قانونية أو تخضع لرقابة أخلاقية؛ القوانين التي تحد من شرب الكحوليات ( قوانين مين Maine Laws) قوانين تقيد أنشطة الأفراد في يوم الراحة (Sabbath) التفرقة في الممارسات الدينية، ( Mormons ) عدم التوافق في أسلوب الحياة ، تجريم المخدرات.

تقوم حجته على مفروض أن الفعل الإنساني ينقسم إلي جزأين: سلوك يتضمن آخرين، وهذا محل الاهتمام الحق من المجتمع، وسلوك لا يتضمن إلا الفرد وحده، وهذا لا يهم المجتمع كثيرا، ويضم هذا المجال: المجال الداخلي للضمير، حرية الفكر والشعور، وحرية التعبير والنشر، حرية الأذواق وتشكيل الحياة بما يلائم طابعنا الخاص، حرية الفرد في الاجتماع مع أفراد آخرين طالما لا تضر هذه الاجتماعات آخرين.

وأخيرا أراد وضع حدود لكل من " العقوبات القانونية" و"الإكراه الخلقي الذي يمارسه الرأي العام"، وليست المسألة مجرد وجود قيود على الفعل الحكومي، بل أيضا وضع قيود على " الإكراه الخلقي"؛ ينبغي أن يتحرر الأفراد من الرقابة العامة أو الرفض من جهة غير قضائية ( كالفصل من وظيفة لاعتناق دين بعينة).

لا يتحدث ميل عن " حرية الإرادة" بل " الغرض من هذه الرسالة أن نتكلم عن الحرية المدنية أو الاجتماعية، وأن نبحث في السلطة التي يجوز للمجتمع أن يستعملها في حق الفرد، فنتعرف علي ماهيتها ونتبين حدودها" [ : 5]، ومع قدم المسألة فقد تغيرت بؤرتها، في الماضي كان النزاع بين الحرية الشخصية والسلطة الأميرية، فكان معني الحرية " حماية الأفراد من استبدا الحكام"، ولم ينازع الأفراد في السلطة نفسها، فقد اعتبرت سلطة الحاكم ضرورة حتمية، فلا يحمي الخراف من الذئاب إلا أسد جسور، ولكنه له مخالب وأنياب، فلا بد أن تدافع الرعية عن نفسها، فتطلعت إلي تقييد سلطة الحاكم، إما بأن يمنح الرعية ضمانات وعهودا؛ حقوقا سياسية، يعد الاعتداء عليها إخلالا بواجبات الحاكم فيجوز للرعية مقاومته بصفة خاصة أو الخروج عليه بصفة عامة، وإما بقيود دستورية، فتكون هيئة نيابية لا يملي الحاكم إرادته إلا إذا وافقت عليها، ولم يكن هذان الإجراءان كافيان، فاستمر النزاع من أجل وضع المسألة برمتها في يد الأمة، وبالفعل خولت الأمة اختيار حكامها وعزلهم، وهنا ساد الرأي أنه " لا حاجة إلي اتخاذ تدابير لحماية الأمة من إرادتها، ولا خوف البتة من استبداد الشعب علي نفسه"، وسرعان ما اتضح أن من يستعملون السلطة ليسوا دائما علي اتفاق مع الخاضعين لها، وأن " الحكم الذاتي" ليس حكم الشعب نفسه بنفسه كما توهم، بل حكم الفرد بمشيئة الكل، واتضح أن إرادة الشعب ليست إلا إرادة القسم الأكثر عددا، أو الأكثر نشاطا من بين سائر أقسام الشعب، إي إرادة الأكثرية ( الأغلبية)، فظهرت الحاجة إلي درء خطر أن تنزل هذه لأكثرية الضيم بباقي الشعب، " مقاومة استبداد الأكثرية"، واتضح أن هذه " الأكثرية " ليست إلا إرادة أقلية في النهاية، ولكن استبدا المجتمع لا يقتصر علي ما يتم علي أيدي موظفيه السياسيين، بل يظهر أيضا في قوة الرأي العام الذي يقهر الناس علي قبول الاعتقادات والآراء والأخلاق السائدة، ومن ثم ثار البحث عن " طريقة للتوفيق بين استقلال الفرد وسلطة المجتمع، فمن المعلوم أن الفرد لا يجد قيمة للحياة إلا إذا قيدت أعمال الغير بدرجة ما، فينبغي إذن تعيين قواعد للسلوك يُفرض اتباعها علي الناس إما بسطوة القانون وإما بقوة الرأي العام حيث لا يصح تدخل القانون" [ :11].

المشكلة هنا هي العوامل التي تحدد قواعد السلوك هذه، فمن بينها: ( 1 ) تتفاوت الشعوب في حلول هذه المسالة، وحتى في أجيال الشعب الواحد، فكل شعب وكل جيل يري أن ما نشأ عليه وتعود عليه من قواعد لوضوح صحتها غنية عما يؤيد صوابها ويبرر العمل بها، ومع أن العادة ـ كما قال أرسطو ـ طبيعة ثانية فقد توهم الناس أنها الطبيعة الأولي، واعتقد الناس أن هذه القواعد من المسائل التي تكون العاطفة في فحصها أهدي من العقل، والهوى في بحثها أرشد من الرأي، أيدهم في هذا جماعة من دعاة الفلسفة ونحلة العلم، فبقيت مسألة هوى أو رأي، وأضحي اتفاق هوى الفرد مع أهواء غيره يسوغ آراءه في مسائل الذوق واللياقة والآداب، مما لم يرد فيه نص ديني، بل حتى في تأويل النصوص الدينية،

" لذا نجد أن آراء الأفراد فيما هو محمود أو مذموم متأثرة بما يكون أهواءهم وميولهم تلقاء سلوك الغير من شتي العوامل، وهي لا تقل تنوعا وتعددا عن سائر العوامل التي تكون ميولهم في مسألة أخرى، فأحيانا يكون أساس الميل التبصر والعق، وتارة يكون الخرافات والوهم، وأحيانا يكون العواطف الموافقة لمصلحة المجتمع، وأخرى يكون العواطف المناقشة لهذه المصلحة كالحسد والبغضاء والكبرياء والازدراء، ولكنه ينحصر في أغلب الأحيان في رغباتهم ومخاوفهم، أو بالأحرى في مصلحتهم الذاتية مشروعة كانت أو غير مشروعة" [ :12- 13]،

( 2 ) وأينما وجد طبقة مطاعة الكلمة ألفت معظم الآداب في دائرة نفوذها مبنيا علي مصالحها ومستمدا من شعورها بسيادتها، وحيثما وجدت طبقة مكروهة السيادة، أو كانت لها السيادة فيما مضي وفقدتها، فالآداب المرعية والعواطف السائدة تنم عن بغض السيادة، وعدم احتمال السيطرة، ولكن خضوع البشر لأسيادهم، ملوكا أو أربابا، وفرض تعلقهم بما يتوهمونه في اعتبار أسيادهم محبوبا، وشدة بغضهم لما يظنونه عندهم مكروها، ليس في أغلب الأحيان نفاقا ولا رياء، ( 3 ) وتؤثر مصالح المجتمع ومرافقه العمة في آداب المعاملة، ولكن ليس من سبيل مراعاة مصلحة المجتمع في ذاتها، ولا من طريق الإصغاء لنداء الحق، بل استجابة لما ينشأ من تلك المصالح والمرافق من عواطف الميل ودواعي الكراهية، فنجد عواطف ودواعي ليس لها علاقة واضحة بمصلحة المجتمع، ولطكن قادة المجتمع في الرأي والشعور لم ينظروا إلي جعل محبة المجتمع شريعة الأفراد، بل نظروا في الأمور التي يخلق بالمجتمع أن يثيرها بمحبته، والأمور التي يجدر أن يخصها بكراهيته، وفضلوا السعي لتغيير عواطف الجمهور نحو الأمور التي يخالفونه فيها، مؤثرين ذلك علي الجهاد في سبيل الحرية والاشتراك في الدفاع عن قضيتها مع سائر الخارجين علي العادة السائدة، ( 4 ) ولعل العقائد الدينية مثال واضح للدفاع عن الحرية علي أساس مبادئ عامة، وإن كان التسامح الديني الذي حصل ـ في كثير من البلدان ـ مقيدا غير مطلق، وناقصا غير كامل، ( 5 ) في إنجلترا، أيام ميل، كان القانون أخف وطأة، وسلطة الرأي العام أمضى نفوذا وأبلغ سطوة، فالناس

" شديدو النفور من تدخل السلطة التشريعية والتنفيذية في شئون الأفراد، ولكن هذا الشعور ليس كائنا عن احترام المجتمع لاستقلال الفرد، بل هو ناشئ عن تلك العادة القديمة التي لا تنفك باقية حتى اليوم وهي اعتبار الحكومة خصم الشعب، فالأكثرية … لم تتعلم بعد أن سلطة الحكومة هي سلطتها وأن آراء القائمين بالأمر هي آراؤها، فإذا تعلمت ذلك وأخذت تشعر به فلا يبعد أن تصير حرية الأفراد مباحة الحمي لغارات الحكومة كما هي لغزوات الرأي العام" [ :16]،

ومع النفور من سلطة القانون ـ أعني عدم المبالغة في الاعتماد علي القانون في تنظيم شئون الحياة ـ أمر محمود فقد يكون في محله أو في غير محله، والحقيقة كما يؤكدها ميل هي أن الناس لا يتبعون في هذه المسألة مبدأ مقررا يجعلونه مقايسة لصلاحية تدخل الحكومة وعدم تدخلها فيما يعرض لهم من المسائل، إنما ينطلقون من ميول ذاتية، ورغبات شخصية، " فبعضهم يميل إلي حض الحكومة علي التدخل في شئون الأفراد كلما رأي في ذلك مجلبة لمنفعة أو دفعا لمضرة، وبعضهم يؤثر أن يقاسي جميع الأسواء الاجتماعية علي أن يزيد شبرا في دارة نفوذ السلطة الحكومية" [ :16]، ويميل الناس إلي الانضمام إلي هذا الفريق أو ذاك تبعا لميلهم إلي أحد المذهبين، أو تبعا لمقدار اهتمامهم بالأمر الذي يراد أن تتعهده الحكومة، أو تبعا لاعتقادهم في قدرة الحكومة علي تحقيقه علي النحو المنشود، " ولكنهم قلما يفعلون ذلك عملا بمبدأ معين يتمسكون به في جميع الأحوال ويتخذونه دليلا لإرشادهم إلي ما ينبغي للحكومة أن تتولاه وما يجب عليها أن تتحاشاه" [ :17]، ولذلك تتخبط سياساتهم، فينشدون ما هم فيه مخطئون، ويهملون ما ينبغي أن ينشدوه.

المبدأ الذي يدافع عنه ميل مبدأ بسيط الصياغة عميق الأثر:

" الغاية الوحيدة التي تبيح للناس التعرض، علي الانفراد أو الاجتماع، لحرية الفرد هي حماية أنفسهم منه" [ :17]،

فمنع الفرد من الإضرار بغيره هو الغاية الوحيدة التي تسوغ استعمال السلطة عليه، أما إذا كانت غاية إجبار الفرد هي " مصلحته الذاتية أدبية كانت أو مادية، فليست بمسوغ كاف، ومن ثم

" لا يجوز البتة إجبار الفرد علي أداء عمل أو الامتناع عن عمل ما بدعوى أن هذا الأداء أو الامتناع أحفظ لمصلحته وأجلب لمنفعته وأعود عليه بالخير والسعادة، ولأنه في نظر سائر الناس هو عين الصواب بل صميم الحق.

قد تكون هناك أسباب كافية لمجادلته أو للاحتجاج عليه، أو لإغرائه أو للتوسل إليه، ولكنها لا تسوغ إكراهه ولا تبرر إيقاع السوء به إذا هو أصر علي الإباء، وإنما يباح ذلك إذا كان الأمر الذي يراد كف المرء عنه جديرا بجلب المضرة إلي الغير.

فالإنسان غير مسئول أمام المجتمع عن شيء من تصرفاته إلا ما كان منها ذا مساس بالغير، فأما التصرفات التي لا تخص غير نفسه ولا تتعلق بغير شخصه فهو فيها كامل الحرية مطلق الإرادة، وذلك لأن الإنسان سلطان في دائرة نفسه، وأمير حر في التصرف في جسمه وعقله" [ :17- 18].

ينطبق هذا المبدأ علي البالغين الراشدين، ومع أنه يُحرّم حمل المرء علي عمل من أجل منفعته هو، ويقضي بأن يُحمل المرء علي الإمساك عما يضر الآخرين، فإنه يسمح بحمله علي القيام بأعمال إيجابية ابتغاء منفعة الغير، مثل: الشهادة أمام المحاكم، ودفع نصيبه العدل من نفقات الدفاع والخدمات العامة الأخرى، وبعض الأعمال الخيرية الأخرى، كإنقاذ الموشك علي الهلاك ومساعدة الضعفاء وغير ذلك من الأمور التي متى اتضح وجوبها علي المرء حق للمجتمع أن يسائله علي التقصير فيها أو الامتناع عنها، فالفرد قد يؤذي غيره بالامتناع عن التصرف كما يؤذيه بالتصرف، ويجب الحذر في حالة الامتناع، ومع أن المسئولية عن الأعمال المضرة بالغير واجبة، فقد تبدو أسباب وجيهة لإعفاء المر من تلك المسئولية، علي أن تكون تلك الأسباب ناشئة من ظروف الحالة وقرائنها، " كأن تكون المسألة من الأمور التي يكون ترك المرء فيها وشأنه أعون له علي حسن التصرف مما لو تعرض المجتمع له بأي وجه من وجوه التحكم، أو كأن تكون محاولة التحكم أجدر بأن تنتج من الشر أضعاف ما يرجى بها حسمه"، وفي هذه الحالات يجب أن يتخذ المرء من ضميره قاضيا ورادعا ووازعا.

فمصلحة المجتمع في الدائرة التي تخص الفرد مصلحة " غير مباشرة"، إن كان له فيها مصلحة أصلا، وتشمل هذه الدائرة التصرفات التي لا تؤثر في فرد غيره، أو التيس إذا أثرت في سواء " فبمحض رغبتهم واختيارهم وبعفو رضاهم واشتراكهم" [ :20]، إنها تضم

" أولا، ودائع الضمائر ودخائل السرائر، وهذا يقتضي حرية العقيدة بأوسع معانيها، وحرية الفكر والشعور، حرية الآراء والميول في جميع المسائل والمباحث: عملية أو علمية، مادية أو أدبية، دينية أو دنيوية … وحرية التعبير عن الآراء ونشرها … ثانيا، حرية الأذواق والمشارب … وثالثا، … حرية اجتماع الأفراد للتعاون علي أمر ليس فيه أذية للغير، علي أن يكون المجتمعون بالغين راشدين لم يساقوا إلي الاجتماع بغش أو إكراه … إنما الحرية في صميمها وجوهرها إطلاق العنان للناس يلتمسون مصلحتهم أيان يبتغون كيفما يريدون، ماداموا لا يحاولون حرمان الغير مصالحهم، وعرقلة جهودهم في سبيل منافعهم" [ :21]،

يعتقد ميل أن البشرية تنتفع من تمتع الناس بالحرية أكثر منه بإخضاعهم لإرادة الغير أيا كان هذا الغير، فالحجة نفعية أساسا.

إذن، وضع ميل خمسة مبادئ بسيطة:

1. " الغاية الوحيدة التي يسوغ للبشرية فيها فرادي وجماعات التدخل في حرية الفعل لأي عدد منهم هي الحماية الذاتية".

2. الغرض الوحيد الذي يمكن أن تمارس من أجله القوة علي أي عضو في المجتمع المتحضر، وضد إرادته، هو منعه من إيذاء الآخرين".

3. " هناك مجال وحيد للفعل، للمجتمع، متميزا عن الفرد، فيه مصلحة غير مباشرة فحسب، إن كان، فاهمين كل ذلك الجزء من حياة الشخص وسلوكه الذي لا يؤثر إلا فيه نفسه، أو إذا أثر في الآخرين ففقط برضاهم ومشاركتهم الحرة والطوعية وغير المخدوعة، وعندما أقول إلا فيه نفسه أعني مباشرة … " .

4. يحمل المرء علي القيام بما هو واجب إذا كان في ذلك منفعة للغير.

5. لا يحمل المرء علي فعل أو قول لمصلحته هو أيا كانت تلك المصلحة، وأيا كانت نظرة المجتمع إليها.

ويمكن طرح أسئلة كثيرة عن صياغة ميل: ( 1 ) فيم يتمثل " الإضرار بالآخرين؟ يفترض أنه ضرر مادي، لكن ألا توجد أنماط أخرى للضرر؟ فمعرفة أن آخرين يمارسون أعمالا إلحادية كاف للتأثير في التقى،أيعد هذا " ضررا"؟ ( 2 ) كيف نميز " الإكراه الخلقي" الذي يجب أن لا نمارسه عن نشاط " الاحتجاج أو التعقل أو الاستعطاف" لمن يعتنقون وجهات نظر نرى أنها تضرهم هم؟ أيعد التظاهر أمام العيادات والمستشفيات التي تجرى الإجهاض " إكراها خلقيا" أم " احتجاجا أو تعقلا أو استعطافا"؟ ( 3 ) كيف نحدد أن الفعل لا يؤثر إلا في الفرد وحده، عندما نقول: " الفرد وحده، إنما نعنيه في المقام الأول"، ألا نقدر العواقب الثانوية، كعواقب حالة متعاطي المخدرات الذي تفقر أفعاله أسرته؟ ألا يؤثر كل فعل أقوم به في المجتمع، فالفشل في توظيف مواهبي يحرم المجتمع من مكاسب قد يجنيها من تلك المواهب؟

قابل ميل بين المنفعة والحقوق، وأهمية هذا أن ميل أعطانا إجابة للسؤال: لماذا نتمتع بتلك الحرية المزعومة، وعلام تؤسس تلك الحرية؟ ولنلاحظ أن إجراء ميل مختلف عن إجراء لوك في "Letter Concerning Toleration" ، فحرية الدين عند لوك تابعة لحقوق المرء على شخصه وملكه الذي امتلكه في حالة الطبيعة ولا يمكن إخضاعها للحكومة في تصوره، وحق التعبير عن الأفكار المبتدعة ( الهرقطة ) نابعة من حق التخلص من الشخص والملكية إذا رأي المرء ذلك مناسبا، خاضعا لحدود قانون الطبيعة، وعندما يدخل المرء في المجتمع المدني يسترد حق " العناية بالروح"، وليست وظيفة الحكومات العناية بتصوره أو احتقاره.

أما الأمور عند ميل فليست مسألة حقوق، إنما مسألة منفعة، وبتعبير أدق؛ لا مناقشة للحقوق مع غض النظر عن اعتبار المنفعة، فوضع على عاتقه عبء إيضاح أن حرية الرأي والفعل ليست مجرد شيء " صواب"، إنما شيء نافع، فتبرز مفارقة: السماح للأفراد بعمل أشياء من الواضح والجلي أنها تضر بهم فهي في صالح البشرية في المدى الطويل.

حرية الفكر والمناقشة

قدم ميل أوضح تقرير للمبدأ في عبارة مشهورة:

لو أن الناس قاطبة أجمعوا على رأي واحد ، وخالفهم في ذلك فرد فذ، لما كان لهم الحق في إخراسه اكثر مما له من الحق في إخراسهم لو استطاع إلي ذلك سبيلا، إذ لا يقدح في أهمية الرأي قلة المنتصرين له وكثرة الزارين عليه"،

إنما يدافع هنا عن حرية الفكر وحرية المناقشة، وكأنما أراد الثانية لا الأولى، فما تجدي المجتمع حرية التفكير والاعتقاد دون مناقشة، وهو دفاع في مواجهة الحكومة والمجتمع على السواء، فما للحكومة أن تخرس الآراء المخالفة، ولا للمجتمع ذلك، إنما يُخشى المجتمع عندما يظهر " استبداد الأغلبية" ( تعبير دي توكفيل)، سواء عُبر عنه في قوانين تشرع أو في آراء وقواعد سلوك تسود ( ولا يغرنك كثرة أنصار الباطل عن الحق، ولا تكن إمعة، إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، إنما وطن نفسك إن أساءوا أن تحسن)، وكثيرا ما تكون سطوة الآراء وقواعد السلوك أقسى من الجزاءات القانونية، فالمثل الأعلى عند ميل ليس فقط حكومة تسمح بالتعبير عن الاعتقادات المخالفة، إنما أيضا مجتمع يرحب بتنوع واختلاف الآراء، وبالفردية، " مجتمع مفتوح" لا يملى عقوبات على المخالفين في الرأي.

قد تعجب بأهداف ميل، فهل حاج لها محاجة قوية، لعلنا نشعر أن تحمل ـ لا أقول التسامح ـ حرية الحديث شيء " سليم"، فهل هو " نافع"؟ حاج ميل في منفعة تقييد حرية الفكر والمناقشة، ناظرا احتمالات ثلاثة: الأول قهر الصدق: يحرم الإنسانية من معرفة مفيدة، ويحول بينها وبين التمتع بمنافع تجلبها الرؤى الجديدة في العلوم، وربما في الأخلاق، ذلك أن المعرفة الإنسانية معرضة للخطأ ( كل كلام البشر يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وما لنا أن نعرف أن ما قمعناه زيف في الواقع، يحفل تاريخ البشرية بأمثلة ثبت فيما بعد نفعها للبشرية، الثاني قهر الزيف: الحجة السابقة نفسها تعمل ضده، ويقدم ميل حجة ثانية: وجود الزيف ( الباطل ) يخدم الصدق ( الحق ) إذ يجبر أنصاره على الدفاع عن أنفسهم، فينقحون وينمون وجهات نظرهم، وتبقى وجهات نظرهم حية، بدل أن يطويها النسيان ( وأقول: الباطل يجلى الحق، والحق يمحو الباطل)، ( 3 ) قهر صدق جزئى، ليست آراؤنا في الغالب صدقا قراحا ولا كذبا قراحا، إنما تصدق جزئيا وتكذب جزئيا، ويسمح التنوع بتكامل أجزاء الصدق، لا يكفي هذا في الدفاع عن حرية الحديث، إنما فحص ميل المسألة كاستكشاف علمي؛ صدق وكذب، ويتقدم العلم بتحمل تنوع وتباين الآراء، والتقدم العلمي نافع، يدفع قدما بارتقاء البشرية، ومن ثم فحرية المناقشة مفيدة لتطور البشرية ( المنفعة).

المسألة الثانية سخف، لا يتطلب التقدم العلمي بقاء متحدثين عن نظرية استواء سطح الأرض، يحض المشروع العلمي على فحص النظريات فحصا انتقاديا، ويثيب ثوابا حسنا من يكشف عن سوءات النظريات المسيطرة، وربما ما كان ميل ليقول باختلاف وتنوع الآراء كطريق للتقدم العلمي، إنما تشجيع لنقد النظريات الرائجة، والفارق بسيط، مع أنه جوهري، إذ يواجه النقد حجج النظرية الرائجة، ونادرا ما يرتب على ذلك إعادة توكيد نظريات قديمة ( سابقة)، أما بالنسبة للمنفعة المزعومة للعلم، فليس الصدق العلمي وحده النافع، عرفت البشرية أشياء أخرى نافعة ( الإيمان الديني، الغيبيات .. الخ)، وما تتطلب جميعا " مجتمعا مفتوحا"، وربما كان تواصل الاختلاف العلمي شقاء للبشرية لا نفعا لها، فحجة ميل لصالح منفعة العلم ( الصدق ) في تطور البشرية، تحتاج ما يساندها، ولا تصدق المسألة الثالثة إلا إذا صح أن الاقتفاء المتواصل للصدق لن يجلب للمجتمع آثارا ضارة، لقد حول ميل المجتمع إلي " مقهى حوار"، ولم يدرك أن رفضه قفل باب الحوار ـ عند حد معين ـ يهدد بتقويض أساس المجتمع، إذ يستبعد أي مقدمات مشتركة، ولا تقل أن ميل إنما ينظر إلي البشرية لا إلي مجتمع فردى، ألا يكفيك زوال " المجتمعات التقليدية"، وأنه كان يمكن ميل أن يقول أن المجتمعات التي كرست نفسها للبحث عن الصدق خدمت تطور البشرية أكثر من غيرها.

علي أية حال؛ لا يخشى ميل الحكومة قدر ما يخشى الرأي العام الذي قد يحمل الحكومة علي التدخل في حياة الفرد أو يتدخل هو نفسه في حياته، فيقرر:

" غني عن البرهان أنه لا يسوغ لسلطة تنفيذية أو تشريعية غير متفقة مصالح مع الأمة أن تفرض علي الناس ما تراه من الآراء، وأن تعين لهم ما يجوز سماعه من المعتقدات والأقوال … نعم ليس يخشى اليوم في بلد من البلاد الدستورية أن تحاول الحكومة كم الأفواه وغل الأقلام ما لم تكن مدفوعة إلي هذا العمل برغبة الجمهور الذي يجعل الحكومة سلاحا لتعصبه، وأداة لتنفيذ مآربه" [ :25].

ولا يسمح ميل لرغبة الرأي العام هذه أن تملي، ليس دفاعا عن الحقوق، وإنما من منطلق المنفعة، فليس رأي المرء متاعا لا قيمة له إلا عند صاحبه، ولا يقع ضرر حرمان صاحبه منه إلا عليه وحدة، ولكن الأمر بخلاف هذا:

" المضرة الناشئة عن إخماد الرأي لا تقتصر علي صاحبه، بل تتعداه إلي جميع الناس حاضرهم وقادمهم، راهنهم وغابرهم، وما هي في الحقيقة إلا سلب الجنس البشري برمته وحرمان إنسانية بأسرها من شيء فائدته لعائبيه ورافضيه أوفر منها لمؤيديه وقابليه، وذلك أن الرأي إن كان صوابا فقد حرم الناس فرصة نفيسة يستبدلون فيها الباطل بالحق ويبيعون الضلالة بالهدي، وإن كان خطأ فقد حرموا كذلك فرصة لا تقل عن السابقة نفاسة وفائدة، وهي فرصة الازدياد من التمكن في الحق والرسوخ في العلم علي إثر مصادمة الحق بالباطل، ومقارنة الصواب بالخطأ" [ :26].

يقدم ميل ثلاثة حجج رئيسية: ( 1 ) افتراض حجة العصمة ( حجة مارقوس أوريليوس)، وتتضمن الحجة أيضا تعزيزا لحجة مرتبطة: إمكانية إساءة استعمال الحجة، ( 2 ) حجة الأسس العقلانية ( حجة شيشرون)، وترتبط بها حجة " الاعتقادات الميتة dead beliefs" لكنها حجة أضعف، ( 3 ) حجة جزء الصدق، تنطبق كل هذه الحجج علي الأقوال ذات المضمون القضوي ( تحتمل الصدق والكذب)، وهي مبنية علي ما يعرف بمبرر " سوق الأفكار الحر"، وقد مد ميل المناقشة ليحاج ضد التقييدات القانونية في الأقوال التعبيرية: الذم، السخرية، التهكم الشخصي، وما شابه، وستري فيما بعد أن حجج ميل لا تنطبق إلا علي فئة واحدة من الأحاديث: الحديث الضميري، أي الحديث الذي يعبر فيه المرء عما يعتقد أنه صادق، وسنري أن هناك أنواعا أخري من الأحاديث لن تلقي مساندة من حجج ميل أو من مبررها.

1. حجة العصمة: إذا كان الناس غير معصومين من الخطأ لا يحق للبعض الفصل في أمر نيابة عن البشر ( إلا برضاهم أو مشاركتهم)، ومنع كل امرئ خلافهم من إبداء الرأي فيه، إن فعلوا فهذا ادعاء أن يقينهم يقين مطلق، وإخراسهم المناقشة معناه ادعاء العصمة، وإذا اعتقدوا نظرية عدم العصمة، فعليهم أن يتحوطوا من الوقوع في الخطأ، لكن البعض يضع ثقة كاملة فيما يعتقد من آراء، والبعض يعتقد فقط الآراء والاعتقادات التي يشاركه فيها جميع المحيطين به، أو المسيطرين عليه، وبقدر شك المرء في رأيه الفردي يكون يقينه في عصمة الوسط ( العالم ) الاجتماعي المحيط به ( حزبا، ملة فرقة، طبقة)، فعليه يلقي مسئولية مخالفته اعتقادات العوالم الأخرى، بينما انتماؤه إلي هذا العالم محض صدفة، لكن الأجيال ليست أقرب إلي العصمة من الأفراد، فكم من آراء واعتقادات قديمة اتضح فسادها بل سخفها.

الاعتراض: ليس تحريم الناس ما يظنونه مجلبة للشر ومدعاة للضر ادعاء للعصمة، وإنما هو قيام بالواجب المفروض عليهم وتنفيذ للأمر المطلوب منهم، وهو العمل بحسب اعتقادهم وإن كانوا معرضين للخطأ ومستهدفين للخطل، تفعل الحكومة هذا بناء علي رأيها الخاص وتحت مسئوليتها، ولو حرمنا علي الناس التصرف طبقا لآرائهم، لأنها قد تكون مخالفة للسداد، ما استطاعوا القيام بشيء من واجباتهم، ولا أن يفعلوا شيئا البتة، إنما علي الحكومة والأفراد أن يبذلوا قصارى جهدهم للتأكد من صواب اعتقاداتهم، فليس في الدنيا من يقين مطلق ( ؟)، وإنما هناك ثقة كافية إبلاغ الإنسان مقاصده في الحياة، ولا يعني اكتشاف أن الكثير من الأفكار التي اضطهدت في الماضي أفكار صادقة، أن يتهاون الناس في شأن المذاهب والاعتقادات التي يرون أنها مضرة بمصالح الناس في أمورهم الدينية والدنيوية، لو كان ذلك لحرمنا علي الحكومة أن تفرض الضرائب لأنها أخطأت وفرضت ضرائب ظالمة، وأن تشن حربا، لأنها شنت حربا عير عادلة.

حجة وظيفة المناقشة: هناك سببان لافتراض صواب الرأي: إما لغرض تحصينه وحمايته من التفنيد والدحض، وإما لأن الدليل لم يقم علي فساده وخطئه مع تعريضه للمناقشة والنقد، من مزايا العقل البشري قدرته علي تصحيح أخطائه بالتجربة والمناقشة، ولا تغني التجربة وحدها، بل لا بد من المناقشة إذ يعرض الرأي علي الآراء المخالفة، ويفحص من كافة وجوهه، هكذا يتقدم العلم والحكمة،

" إذا كان المرء محيطا بكل ما قد يقال ضده، وقد أخذ أهبته وأعد عدته لإفحام كل من يتصدى لمناقضته، وكان عالما بأنه لم يحاول التملص من المناقشة ولم يبغ الفرار من المجادلة ، بل مازال يتحدى الناس إلي إقامة الاعتراضات في وجهه ووضع العقبات في سبيله، وأنه لم يحجب شيئا من الأنوار التي يمكن أن تلقي علي الموضوع من أي مصدر كان، أقول أنه مادام هذا شأنه فحقيق به أن يعد حكمه أدني إلي الصواب وأقرب إلي الحقيقة من رأي أي إنسان آخر أو جماعة أخري لم يسلكوا في تكوين حكمهم هذا السبيل، ولم يصفّوا رأيهم في مثل هذه البوتقة" [ :32]،

فعلي الجمهور، وهو مؤلف من قليل من العقلاء وكثير من الحمقى، أن يسلكوا هذا الدرب، كانت الكنيسة تستمع إلي صوت " الشيطان " في تعيين القديسين، وما رسخت فلسفة إلا بالمناقشة والنقد، الغريب إذن أن يعترف الناس بصحة البراهين المؤيدة لحرية المناقشة، ولكنهم يعارضون في التوسع في تطبيقها، فحرموها في بعض المبادئ والاعتقادات التي عدوها من الحقائق الثابتة، مع أن شخصا واحدا قد يفند أيا منها إذا أتيحت له حرية المناقشة.

حجة التملص من العصمة: هناك مذهب يرمي إلي حماية الآراء من الطعن، لا بدعوى أنها مطابقة للحق، بل بدعوى أنها نافعة للمجتمع،

" أصحاب هذا المذهب يزعمون أن هناك طائفة من الاعتقادات نافعة كل النفع للمجتمع بل لازمة كل اللزوم لصلاح شئونه فلا مندوحة للحكومة عن صيانتها كما لا مندوحة لها عن صيانة أي مصلحة أخري من المصالح العامة، وقيام الحكومة بهذا الأمر إنما هو أداء لواجب من واجباتها المحتمة، وفي هذه الحالة لا تشترط عليها العصمة حتى يسوغ لها، إنما حتى يجب عليها العمل رأيها الخاص المعزز بالرأي العام، وكثيرا ما يحتج أصحاب هذا الزعم بأنه لن يقدم علي تفنيد تلك الاعتقادات النافعة إلا أصحاب النيات الخبيثة والمقاصد الشريرة، ومن ثم ليس من الخطأ الشرب علي أيدي أولئك الأشرار، وتحريم الأمور التي يستحيل صدورها إلا من الفجار" [ :34]،

يتوهم أولئك أنهم بتحويل المسألة من البحث عن الحقيقة إلي موافقة المصلحة تملصوا من تبعية انتحال العصمة، وبقطع النظر عن كون منفعة الرأي مثار جدل وخلاف، فنفع الرأي لا ينفصل عن صوابه، يجمع الأخيار، وليس الأشرار، علي أن الاعتقادات الباطلة لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال نافعة منفعة حقيقية، عد الإغريق سقراط أحكم الناس، ومازال يعد كذلك حتى اليوم، ومع ذلك أعدموه بتهمة الإلحاد وإفساد الشباب، رأوا في إعدامه مصلحة للمجتمع علي الرغم من معرفة افتراء التهمتين، ولقي المسيحيون الأوائل صنوف التعذيب والتنكيل، مع أنهم كانوا علي الحق، وكان بولس من الراجمين، وكان مارقوس أوريليوس أقرب الناس في اعتقاداته إلي النصرانية ومع ذلك اضطهد المسيحية، تحت ادعاء حماية المجتمع من التداعي وصيانته من الانتقاض.

حجة أثر الباطل: لما أسقط في يد أعداء الحرية الدينية، ووجدوا أن كل حجة يحتجون لها ضد نشر الآراء المخالفة لاعتقاداتهم صالحة أيضا للدفاع عن ماقوس أوريليوس وتبرر عمله، قالوا:

" كان أعداء المسيحية محقين في عملهم، وأنم ضروب الاضطهاد إن هي إلا محنة لا بد للحق من اجتيازها، وهو ينجح علي الدوام في اجتيازها، فإن العقوبات القانونية لا تقوي في نهاية الأمر علي مغالبة الحق، ولكنها تبلي بلاء حسنا في القضاء علي الأغلاط المفسدة والأباطيل المضلة" [ : 41- 42]،

لكن التاريخ مفهم بالشواهد علي أن الحق لا يفوز دائما علي الاضطهاد، وإذا كان الاضطهاد لا لا يستطيع القضاء علي الحق قضاء مبرما، ويخمده إخمادا مؤبدا، ففي طاقته تعويق ظهوره قرونا عدة، وتأخير انتشاره قرونا مديدة، تشهد بذل ثورات الإصلاح الديني في أوربا، لا يشتمل الحق علي قوة غريزية ليست موجودة في الباطل من شأنها أن تمكن الحق من التغلب علي ضروب العقاب والتنكيل، وصنوف العذاب والتمثيل، فليس أنصار الحق أشد تعصبا له من تعصب أنصار الباطل له، لكن الفضيلة الحقة للحق أنه إذا كان الرأي صوابا أمكن إخماده مرات عديدة، وبعد مضي السنين يعاد اكتشافه مرة تلو المرة إلي يصادف ظروفا يفلت فيها من الاضطهاد.

قد يقال أننا لسنا من أولئك الذين قتلوا أنبياءهم ومثلوا بعلمائهم، إنما نوقرهم ونجلهم، ونحتفي بذكراهم، ولا نوقع عقابا يكفي لإخماد واستئصال حتى أمقت الآراء، هنا يوضح ميل أن الاضطهاد القانوني مازال قائما، في إحدى القضايا لا تقبل المحكمة شهادة رجل أعلن أنه ملحد، صدقت قوله، وحكمت نفس المحكمة علي شخص بالسجن واحدا وعشرين شهرا تفوه بألفاظ قادحة في حق المسيحية، وليس هذا ضربا من الاضطهاد ولكنه من بقاياه وأطلاله الدارسة.

حجة الآثار السيئة: قد يجيء تهديد الحرية من ناحية الاستبداد الاجتماعي كما يجيء من ناحية الاستبداد السياسي، فحيث يسود الرأي العام تري الناس لا يجاهرون بمخالفته كما يجاهرون بمخالفة القانون، ولا يختلف حبس المرء عن قطع أساب الرزق عنه من أثره في التعبير عن آرائه ومعتقداته، ولذا لا يقبل علي المجاهرة برأيه واعتقاده إلا ذوو الوسائل الذين لا تنقصهم الشجاعة والشهامة،

" لا يستطيع اضطهادنا الاجتماعي المجرد من السلاح القانوني قتل أحد من الناس، ولا القضاء علي رأي من الآراء، ولكنه يحمل أهل التفكير علي إخفاء اعتقاداتهم، أو علي اجتناب السعي لنشرها" [ :48]،

وبذلك تتم التضحية بما للعقل البشري من شجاعة أدبية وإقدام معنوي، فلا ينتظر إلا قوم أذلاء يكتفون بمتابعة المألوف، أو قوم منافقون، يقتصرون في الحديث علي الأمور التي يستطاع الحديث عنها بلا تعرض للمبادئ العامة والأصول الجامعة، أي ينشغلون بسفاسف الأمور وصغارها، كما أن إسكات أهل البدع يحول دون فحص وتمحيص آراءهم، ولكنه لا يحول دون انتشارها كالنار تحت الرماد، كلما يحرم البشرية من ثمرات العقول الخصيبة والأذهان الناضجة، كما أنه يحول دون أن تستفي الطبقة المتوسطة نموها العقلي الذي تستطيعه.

2. حجة الأسس العقلانية: إذا افترضنا صدق الاعتقادات الشائعة والآراء المقبولة، فكيف تم اعتناقها؟ إذا زاد تمسك الإنسان برأي صعب عليه الاعتراف باحتمال فساده، ولكنه سيجد أنه صار عقيدة جامدة ميتة، ولن يصير حقيقة فعالة مؤثرة ما لم يكثر من تعريضه للمناقشة الحادة والجدال المستمر غير هياب ولا وجل، ومثل هذا الرأي الذي لا يتم تبنيه عن اقتناع راسخ وتبصر تام يصبح عرضة للسقوط علي إثر اصطدامه بأوهن حجة وأضعف برهان، وإذا افترضنا أنه رأي صادق فإنه يصير خرافة من الخرافات، ولا ينكر أحد أن تثقيف ملكات الإنسان من الأمور الواجبة، ولا يكون التثقيف إلا بتدريبها علي المناقشة وتفهم العل والأسباب التي يبني عليها كل امرئ آراءه.

قد يقال أن معرفة الأسباب والعلل لا تقتضي فتح باب المناقشة علي مصراعيه، فالذين يتعلمون الهندسة لا يقتصرون علي منطوق النظريات وإنما يعرفون المقدمات والشروح دون مناقشتها، ومن ثم يمكن تفهيم الناس العلل التي بنيت عليها عقائدهم تفهيما يجعلهم علي بصيرة منها وعلم بها وإن لم يسمعوا أحدا ينفي صحتها أو يحاول إدحاضها [ :55].

يعترف ميل بكون الحقائق الرياضية غير قابلة للتأويل إلا علي وجه واحد، ولكن في المجالات الأخرى لا يعرف الحق إلا بالموازنة بين طائفتين مختلفتين من الآراء، والمفاضلة بين فئتين متناقضتين من الأقوال، أو أكثر، نري هذا في العلوم الطبيعية، ويكثر في المباحث الخلقية والدينية والسياسية ، والمسائل الاجتماعية والمعاشية، لقننا شيشرون درسا ينبغي أن نعيه، وهو ضرورة الاهتمام بحجة الخصم قدر اهتمامك بحجتك لتحرز النجاح، فقد تكون براهينك متينة صحيحة، ولا يستطيع إنسان آخر أن يأتي بما يبطلها، ولكن إذا لم تستطع إبطال أدلة الخصم، أو لم تعرفها أصلا، فكيف تفاضل بين رأيه ورأيك؟

" لا يكفي سماع أقوال الخصم من أفواه أساتذتك مفرغة في القالب الذي يوافق هواهم، ومقترنة بالردود التي يرونها كافية لتفنيد تلك الأدلة، فليس في هذه الطريقة شيء من الإنصاف لأقوال الخصم، ولا هي جديرة بأن تقرب من هذه الأقوال إلي الذهن حتى يتصل بها حق الاتصال، بل ينبغي أن تسمع أقوال خصمك ممن يؤمن بصحتها، ويقن بصدقها، ويبذل في الزود عنها قصارى جهده، ويفرغ في تأييدها منتهى طاقته، نعم يجب أن يطلع الإنسان علي أدلة الخصم وهي في آنق صورة، وأفتن صورة، وأن يشعر كل الشعور بما لتلك الأدلة من الرجاحة والقوة، وبما في مركز المدافع ضدها من الحرج والصعوبة، وإلا كان من المحال عليه أن يهتدي إلي وجه الصواب الكفيل بدفع تلك الأدلة وتذليل تلك الصعاب" [ :56]،

وللأسف الشديد لا يكلف المثقفون أنفسهم تلك المشقة، فلا يعرضون آراءهم علي الخصوم، ولا يتوقعون ما يمكن أن يأتي به الخصوم من حجج مضادة، لا يرجحون بين مركزين بنزاهة وحيدة، فتراهم محامين سوء، تحيزوا وتحذلقوا، وهم لا يعرفون اعتقاداتهم معرفة صحيحة، ولا يدركون أسرارها إدراكا صادقا، ولا يفهمون أجزاءها المحورية، ولا يفقهون الاعتبارات التي تؤدي إلي تعارض ظاهر وموهوم بين الحقائق، أو التي تؤدي إلي رجحان سبب علي سبب مع ظهورهما بنفس القوة والوجاهة.

" قد يقول أعداء حرية المناقشة … أنه لا داعي لتلقين الجمهور وتفهيم العامة كل ما عسي أن يقال دفاعا عن اعتقاداتهم، أو إدحاضا لآرائهم في مناظرات الفلاسفة ومجادلات الفقهاء، وأنه لا ضرورة البتة لأن يكون الفرد من الغمار والدهماء مقتدرا علي فضح ما قد يأتي به خصوم عقيدته من التحريف والتمويه، وتفنيد ما قد يحتجون به من الأضاليل والأباطيل، بل حسبنا أن يكون لدينا من المتعلمين فئة مختارة قادرة علي إفحام الخصوم حتى لا يبقي شيء مما عساه يضل غير المتعلمين دون أن يفند بالبرهان القاطع والحجة المخرسة" [ :57]،

نعم يكفي العامة فهم واضح العلل وظاهر الأسباب، ويختص أهل العلم والمعرفة بالغامض والدقيق، ولكن هذا لا ينفى وجوب أن يعلم أهل العلم والمعرفة تلك الحجج المضادة، وأن يناقشوها مع أنصارها، لقد نهجت هذا النهج الكنيسة الكاثوليكية، فسمحت لطائفة القساوسة أن يطلعوا علي أدلة الخصوم كي يردوا عليها، ولم تسمح بذلك للعامة إلا بترخيص يصعب الحصول عليه، ، ولكن الكنيسة البروتستانتية تعلن ـ إن لم يكن بالفعل فبالاسم ـ أن كل نفس مسئولة عما تعتنقه من أديان، نظرا لصعوبة التمييز بين أهل العلم والعامة، وصعوبة الحيلولة بين الناس وقراءة المؤلفات المخصصة للمتعلمين، ومن ثم إذا أريد أن يطلع الأئمة علي كل ما ينبغي أن يحيطوا به علما فلتطلق حرية الحرية التامة للناس يكتبون ما يكتبون وينشرون ما ينشرون.

حجة الاعتقادات الميتة: قد يقال أن حظر المناقشة يقتصر أثره علي العقول، ولا يتعداه إلي الأخلاق ، فهو لا يزري بالاعتقادات في تأثيرها في السلوك، ولكن الواقع علي خلاف هذا

" لأن عدم المناقشة لا يورث نسيان الأسباب التي بنيت عليها الآراء فحسب بل يفضي كذلك في أكثر الأحيان إلي نسيان معاني الآراء فتصبح الألفاظ المعبرة عنها لا تؤدي إلي الذهن شيئا من المعاني البتة، أو لا تؤدي إليه إلا النذر الطفيف مما كان يراد منها.

وبدلا من أن يقوم الرأي في الذهن مقام فكرة جليلة واضحة، وعقيدة مؤثرة مثمرة، لا يبقي هناك إلا بضع كلمات جوفاء ترددها الذاكرة عن ظهر قلب، وإذا فرض أن الذهن لا يزال مستبقيا شيئا من معاني الآراء فلن تراه ممسكا غير القشور والحثالة، أما الجوهر اللطيف فلن تقف منه علي أثر" [ :60]،

تبقي العقيدة مفعمة بالحيوية والنضارة أثناء نشرها، فإذا ما حلت محل الرأي العام أو اكتفت بما حققته من نمو، فترت حدة المناقشة وأخذت في الزوال، ويصبح الإيمان بها مسألة وراثة لا مسألة اقتناع، فإذا ما أصم أنصارها آذانهم عن مطاعن الطاعنين، وحجج المخالفين، أراحوا خصومهم، وأخذت عقيدتهم في الانحطاط واضمحلال قوتها الحيوية، فتفقد تدريجيا تأثيرها في الأخلاق المشاعر والسلوك

" متى أصبحت العقيدة تقليدا وراثيا وصار تلقينها عملا سلبيا لا إيجابيا، ولم يعد هناك دافع يحفز الناس إلي إعمال القريحة واقتداح الروية فيما تثيره من المشكلات فإنهم يجنحون بالتدريج إما إلي نسيانها برمتها ما عدا أوضاعها وصيغتها، وإما إلي الاكتفاء بالموافقة عليها موافقة عمياء جهلاء، كأن التسليم بها من غير مناقشة ولا ارتياب يغني عن وجوب إدراكها بعين الضمير، وعن التحقق من صحتها بالتجربة والاختبار" [ :61- 62]،

يوضح ميل كيف صارت المسيحية إلي الجمود والتحجر إلي حد أن واحدا من الألف مازال يهتدي بتعاليمها في أخلاقه وسلوكه، وإن اتخذوا مبادئها " رجوما يقذفون بها الأعداء، وسهاما يصوبونها إلي نحور الخصوم، ولا يتأخرون كلما أمكنتهم الفرصة عن اتخاذها مسوغا لكل ما صادف أهواءهم، وعن الاحتجاج بها لتأييد ما نال استحسانهم، ولكن متى اعترض لهم أحد الناس وذكرهم بأن العقائد التي يدينون بها توجب عليهم أمورا لا تحصى وأعمالا لا تستقصي مما لا يخطر لهم ببال، ولا يسنح لهم حتى في الخيال، أعرضوا عنه وقالوا متقعر متنطع يريد التظاهر بأنه خير البرية وصفوة الخليقة" [ :63- 64].

وإذا كانت هناك أسباب شتي لاحتفاظ الاعتقادات الخاصة بفرقة ما بنفوذها وقوتها، فمنها أنها مرمي لسهام النقد، ولنبال الارتياب، فالأمان من النقد والمناعة من الشك من أعظم الأسباب التي تجعل الاعتقادات المشتركة أقل تأثيرا ,اضعف نفوذا من الاعتقادات الخاصة [ :65]، ومن الأمور الثابتة أن نزوع الناس إلي عدم التفكير في الأمر متى أصبح غير قابل للشك هو السبب في نصف ما يرتكبون من أغلاط، فالرأي الثابت المستقر عرضة للاستغراق في ثبات عميق.

حجة الإجماع والاختلاف: يتساءل المعارضون: هل عدم الإجماع شرط ضروري لتحقيق المعرفة الصحيحة؟ هل من الضروري أن أن يصر بعض الناس علي الباطل حتى يتسنى للآخرين إدراك الحق؟ هل تصبح العقيدة عديمة التأثير خالية من الصدق بمجرد اتفاق الآراء علي قبولها، وهل لا سبيل إلي اكتناه قضية من القضايا، إلا إذا كان بعض الشك لا يزال حائما حولها؟ أتريد القول بأن الناس متى أجمعوا علي اعتقاد حقيقة ما فقد انعدم تأثيرها في ضمائرهم، وزال وقعها من نفوسهم؟

لا يدعي ميل هذا، ويسلم أنه كلما ارتقت الإنسانية زاد عدد الحقائق التي ليست محلا للشك، وأن صلاح شئون الناس متوقف علي عدد الحقائق الخطيرة التي تصل عندهم إلي درجة اليقين، وأن انقطاع المناقشة الجدية للمسألة بعد المسألة من ضروريات استقرار الآراء، وهذا مفيد إذا كانت الآراء صادقة، أما إن كانت خاطئة فهو شديد الخطر، إذن تضييق دائرة الخلاف أمر ضروري، ولكن لا يعني هذا أنه نافع محمود، فمتي أجمع الناس علي رأي قعدوا عن تأييده صحته وإيضاح غامضه، وليس الإجماع حجة علي المخالفين المرتابين، فأوي بنا أن لا نقعد عن الجهاد لإدراك الحق إدراكا مؤثرا فعالا، وفهمه فهما جليا واضحا، كانت المناظرات السقراطية التي سجلها أفلاطون من هذا الطراز، تحاول كشف جهل الناس، لأنهم يقتصرون علي الاعتقادات والآراء السائدة، وكان الجدل المذهبي في العصور الوسطي طريقة لتعليم التلميذ الرأي والرأي النقيض، حتى يستطيع تعزيز رايه ودحض رأي الخصم، والمنطق السلبي طراز آخر، لا ريب في أنه خسيس القدر تافه القيمة إذا كان مرماه مجرد إظهار مواطن الضعف ومكامن الوهن في الآراء السائدة، ولكنه عظيم القيمة عالي القدر إذا كان وسيلة للاقتناع الصحيح أو لبلوغ الحقائق الإيجابية، " ومادام الناس لا يتعلمون هذا النوع من الانتقاد علي أسلوب منظم، كما كانوا يفعلون في الماضي، فلن يظهر بينهم في غير المباحث الرياضية والطبيعة إلا قليل من فحول المفكرين، ولن تصل مدارك الجمهور في غير تلك المباحث إلي درجة سامية" [ :69].

3. حجة بعض الصدق: فحصنا احتمالين: أن يكون الرأي السائد خطأ، فلا بد من البحث عن الرأي الصواب، وأن يكون الرأي السائد صوابا، فيلزم لتوطيد في الأذهان، ولتمكينه من النفوس أن يعرض علي الآراء المخالفة، بقي احتمال أن يتضمن الرأي السائد بعض الصدق، وأن يتضمن الرأي المعارض بعض الصدق أيضا، فلا بد من تكميل الرأي المقبول بالرأي المرفوض حتى يأتلف شمل الحقيقة ويلتئم شعث الصواب.

آراء الناس في غير مسائل الحس، في الغالب، صائبة، ولكنها لا تشتمل إلا نادرا أو لا تشتمل أبدا علي كل الصواب، بل علي جز منه، صغيرا أو كبيرا، ولكنه انفصل عن غيره من الحقائق التي ينبغي أن يكون في صحبتها ومتقيدا بها، إما نتيجة المبالغة وإما نتيجة التحريف، والآراء المرفوضة في الغالب بعض هذه الحقائق التي أهملها الرأي المقبول، فطمرت إلي أن جاءت الفرصة السانحة فحطمت أغلالها، فظهرت إما مسالمة تريد الانضمام إلي الحقيقة المستقرة في الرأي المقبول، وإما مجاهرة بالعداء للرأي المقبول تريد مكانه، والصورة الأخيرة أكثر رواجا، فالعقل البشري نزاع إلي التطرف، وهذا جلي في الثورات الفكرية، بينما الصورة الأولي أنفع للبشرية، تزيد من محصولنا من العلم، ومن ذخيرتنا من الحق، إذا أهملنا رأيا يتضمن ولو ذرة من الحقيقة فقد خسرنا الكثير، حتى وإن كان هذا الرأي متطرفا، ففي القرن الثامن عشر يختال مزهوا بالمدنية وانتصاراتها علي البداوة، خرج عليهم روسو معلنا أن الإنساني البدائي في حالة الطبيعة كان نبيلا فاضلا، فكان رأيه عاصفة تكاد تعصف بكل إنجازات المدنية، ولكنه نبه العقول إلي حقائق أغفلها الرأي السائد، وأدركت ما تنضوي عليه الحياة المدنية من أساليب النفاق التي تفسد الأخلاق، وأنواع الخداع التي توهن الطباع، وفي بريطانيا صلاح الحياة السياسية قائم علي وجود حزبين أحدهما محافظ يدعو إلي النظام، وحزب تقدمي يدعو إلي الإصلاح، ولا يوجد من يدعي أن له عقلا يلم بكل المتناقضات، ويستطيع التوليف بينها، ولذا يتوقف صلاح الناس علي تعارض الآراء، والأولي بالرعاية والمساعدة والتحمل هو الرأي المخالف لا الرأي السائد،

" اختلاف الآراء هو السبيل الوحيد لتنوير كل ماحية من الصواب وإيضاح كل وجه من الحقيقة مادام العقل البشري علي حالته الراهنة، فكلما من يخالف الإجماع، ولو كان الإجماع علي الصواب، كان من المرجح دائما أن يكون عند هذا المخالف من الأقوال ما يستحق الإصغاء، فلو نحن ألزمناه السكوت لأصاب الحقيقة بعض الخسران" [ :74].

حجة من الآداب المسيحية: يقال أن بعض المبادئ عظيمة الشأن لا تتضمن نصف الحقيقة بل كل الحقيقة، " فالآداب المسيحية مثلا تحتوي كل ما في موضوعاتها من الحقيقة، فإذا قام امرؤ بالدعوة إلي آداب مغايرة لها كان في خطأ مطلق وضلال مبين" [ :74]، وتسير حجة ميل علي النحو التالي، مبينا أن الآداب المسيحية لا تتضمن كل الحقيقة في باب الآداب، وأنها لا تقدم نظاما كاملا للأخلاق:

إذا كان المقصود بالآداب المسيحية ما دون في العهد الجديد، فإنه نفسه يحيل إلي العهد القديم ( التوراة)، ولم يتعرض لإلغائه أو نسخه، وإنما اقتصر علي تصحيح بعض أجزائه أو الاستعاضة عنها بما هو أسمى وأوسع، وإذا كان بولس جاهر باستهجانه اللجوء إلي التوراة،؟ فقد لجأ هو الأخلاق اليونانية والرومانية، وما يسمي بالآداب المسيحية هو ـ إن صح التعبير ـ آداب لاهوتية، لم تؤخذ عن المسيح ولا الحواريين وإنما وضعتها الكنيسة الكاثوليكية عبر القرون الخمسة الأولي، ومع إنكار البروتستانت وغيرهم هذه الآداب فإنهم لم يدخلوا عليها من التعديل ما كان منتظرا، واكتفوا بحذف الإضافات التي تمت في العصور الوسطي، وأضافت كل فرقة ما يناسبها مكان ما حذف.

ويري ميل أن الآداب المسيحية كانت رد فعل، احتجاجا علي الوثنية، ومع أنها لم تأمر بطاعة السلطان إذا خالفت نصوص الدين، فإنها أمرتهم بالاستسلام والخضوع ونهتهم عن الخروج والعصيان مهما أصابهم من الأذي ولحقهم من العدوان، وبينما أعطت الآداب الوثنية الواجبات الاجتماعية مكانة سامية، لم تعرها الآداب المسيحية أي اعتبار، ويرجع دخول تلك الواجبات فيها إلي الإسلام والتعاليم اليونانية والرومانية.

ولا يعني هذا أن ميل ينكر " أن أقوال المسيح [ عليه السلام] تشتمل في نصوصها علي كل ما أريد بها، وأنها تناقض شيئا من المبادئ التي ينبغي توافرها في أي نظام خلقي جماع"، فهو موقن تماما بهذا [ : 77]، إنما أن الخلل حدث عندما حاول الناس أن يستخلصوا من نصوصها الآداب، وأن يقينه هذا لا ينافي الاعتقاد بأن تعاليم المسيح " لا تحتوي ـ وما كان المراد أن تحتوي ـ غير جزء من الحقيقة، وبأن كثيرا من الأركان الجوهرية لأشرف المذاهب الخلقية غير منصوص عليه ـ وما كان المراد أن ينص عليه ـ في تعاليم السيد المسيح، وبأن هذه الأركان الجوهرية قد أغفلت إغفالا تاما في المذهب الذي شيدته الكنيسة علي أساس التعاليم المذكورة" [ :78].

أخيرا يلخص ميل حججه التي تدعو إلي حرية الرأي وحرية المناقشة قائلا:

" أولا، إذا أخمد رأي ما فقد يكون هذا الرأي هو الصواب، ومن ينكر احتمال ذلك فقد ادعي العصمة لنفسه.

ثانيا، إذا كان الرأي المراد إخماده مخالفا للصواب فقد يكون مشتملا علي جزء من الحقيقة وهو ما يقع بالفعل في أكثر الأحيان، ولما كان الرأي السائد في أي مبحث قلما يستمل علي كل الحقيقة فلا سبيل إلي إحراز بقيتها إلا إذا عورضت الآراء السائدة بالآراء المخالفة.

ثالثا، إذا فرضنا جدلا أن الرأي السائد موافق للصواب، ومشتمل أيضا علي كل الحقيقة، كان من الضروري إطلاق الحرية للمناقشة فيه مناقشة حادة غير فاترة، فإذا لم تطلق هذه الحرية، وإذا لم تحصل تلك المناقشة نزل الرأي في أذهان معتقديه بمنزلة سوابق الأوهام، فلا تفهم أسبابه المعقولة، ولا تدرك الحكمة منه والعلة فيه وليس الأمر مقصورا علي ذلك.

رابعا، يصبح معني الرأي في خطر من التلاشي والزوال، أو من الضعف والاضمحلال، حتي يفقد تأثيره المهيمن علي الأخلاق، ويعدم نفوذه المسيطر علي الطباع، عند ذلك تصير العقيدة مجرد ألفاظ فارغة وعبارات جوفاء لا تؤدي إلي صاحبها شيئا من الخير والنفع، ولكنها تملأ فراغ ذهنه، وتشغل ثري قلبه، فتمنع نمو أي عقيدة صادقة مثمرة تمليها عليه الروية أو توحيها إليه الخبرة" [ :81، في هذا الموضع خطأ في ترتيب الصفحات].

حرية الفعل الفردي

" دعنا بعد ذلك لنحث ما إذا كانت نفس هذه الأسباب توجل أيضا إطلاق الحرية للناس في الفعل بمقتضى آرائهم، وفي إبراز هذه الآراء من حيز الفكر إلي حيز الفعل، دون أن يعترضهم في هذا السبيل مانع مادي أو أدبي من قبل الغير مادامت أفعالهم لا تمسه بسوء أو خطر، وطالما أنه يفعلون ذلك متحملين المخاطرة والخطر، وهذا الشرط ضرورة بالطبع، إذ لا يوجد من يقول بأن حرية الفعل ينبغي أن تكون بقدر حرية الرأي، بل إن الآراء نفسها لتفقد حرمتها إذا كان التعبير عنها يقع في ظروف تجعله تحريضا إيجابيا علي ارتكاب فعل مضر" [ :85]،

الحجة إذن حجة المنفعة كما في أسباب حرية الحديث، إلا أنه سلم " ما من أحد يزعم وجوب أن تكون الأفعال حرة كالآراء"، يلعب معيار الضرر هنا دورا بالغا، فلندرك عواقب الفعل الفردي بالنسبة للآخرين، ولذا يورد القيد " طالما أنه يفعلون ذلك متحملين المخاطرة والخطر"، ويزيد في هذا القيد " لا شخص يعيش معزولا تماما، فمن المحال أن يفعل شخص أي شيء بالغ أو دائم الضرر بنفسه دون أذى يصل على الأقل أقاربه القريبين، وفي الغالب يتجاوزهم"، فلابد من إثبات أن الفعل محل المساءلة لا يخرق " التزاما مميزا ومعترفا به تجاه شخص آخر أو أشخاص آخرين" ـ كتعاطي شرطي أو جندي الخمر ـ وتبقى مشكلة تحديد نطاق الأنشطة التي تؤثر في هذه " الالتزامات المميزة والمعترف بها"، أيمكن " للداخلية " أن تأمر الشرطة بعدم التدخين حتى في غير أوقات العمل على أساس أن ذلك يؤثر في أبدانهم وسيؤثر في أدائهم؟

تأتى حجة أخرى معزولة في التمييز بين أفعال المرء بنفسه وأفعاله مع آخرين، ألا وهي قيمة الفردية، فيطلب الموازنة بين منافع الفردية والأضرار المحتملة للأفعال التي قد تخرق، أحيانا " الالتزامات المميزة والمعترف بها"، والمسألة أبعد من أن تكون " حرية سلبية"، فما هي بتحديد فئة من الأفعال التي لا تهم الدولة أو المجتمع، إنما هي قوله أنه مع أنه من مصلحة الدولة أو المجتمع أن يقمع أفعالا فردية بعينها، فلا ينبغي له أن يفعل ذلك، فازدهار الفردية مفضل على إملاء كل " الالتزامات المميزة والمعترف بها"، وقيمة الفردية في نفعها.

1. ما يصدق علي الأقوال يصدق علي الأفعال:

" الواقع أن كل ما ذكر آنفا من أن الناس غير معصومين من الخطأ، وأن معتقداتهم لا تشتمل علي كل الحقيقة بل علي شطر منها، وأن إجماع الآراء غير مستحسن ما لم تكن نتيجة المقارنة بين متضارب الآراء مقارنة مطلقة من كل قيد، بريئة من كل نقص، وأن تشعب المذاهب واختلاف وجهات النظر ليست من السيئات المضرة بل من الحسنات المفيدة مادام الناس عاجزين عن الإحاطة بكل أطراف الصواب، نقول أن هذه الاعتبارات تصدق علي تصرفات الإنسان وأفعاله، كما تصدق علي نظرياته وأقواله,

فكما أنه يحسن، مادام الناس لم يبلغوا مرتبة الكمال، أن يكون هناك اختلاف في الآراء، كذلك يحسن أن يكون ثمة اختلاف في سبل المعيشة وتنوع في تجارب الحياة، وأن يفسح المجال لكل صنف من الأخلاق ما لم يكن فيه إضرار بالغير، وأن تطلق الحرية للناس يثبتون بالتجربة والاختبار قيمة كل أسلوب من أساليب العيش، وصفوة القول أنه يحسن في كل ما لا يمس الغير مباشرة تمكين الشخصية من إبراز نفسها، وإظهار استقلالها، ذلك أنه إذا كان رائد الأفراد في سلوكهم هو عادات الغير وتقليد السلف، دون أخلاقهم الذاتية وطباعهم الفردية، فقد انعدم من السعادة البشرية أحد أركانها الكبرى، وضاع من التقدم الفردي والاجتماعي ركنه الأجل ودعامته العظمى" [ :86- 87]،

إذن محور الحجة هو استقلال الشخصية لما يجلبه من سعادة شخصية، ولما يحققه من رفاه عام.

2. حجة استقلال الشخصية غاية الإنسان: هذه هي حجة المكون الأساسي للسعادة الإنسانية، وهي حجة عواقب مباشرة، تبرر الفردية بالآثار المباشرة لكون المرء فرديا بين أناس فرديين، وهي حجة إمبريقية ضعيفة

نمو الشخصية عنصر مكافئ لكل ما يسمي بالمدنية والحضارة والتربية والتهذيب، بل شرط ضروري لتحقيق هذه الأشياء وجزء لا يتجزأ من معانيها، ولكن قلما يعترف الناس بقيمة الاستقلال الشخصي واستحقاقه الاحترام والاعتبار لذاته وبصرف النظر عن كل ما سواه، فطالما السواد الأعظم راض عن الأوضاع القائمة، فلا يتصورون عدم صلاحها لجميع الناس، والأسوأ أن معظم الفلاسفة والمصلحين لا يضعون استقلال الشخصية جزءا من برامجهم، ولا يجعلونه مرمي من مراميهم.

لكن الفيلسوف الألماني وليم فون همولد أعلن: " غاية الإنسان، والغرض الذي تتجه إليه أوامر العقل الماضية وأحكامه الباقية، لا الذي تنزع إليه غوامض الرغبات وزوائل الأهواء، هو تربية ملكاته وتنمية قواه علي أحكم نظام وأوسع منوال، حتى يتهيأ مها مجموع كامل متناسب" [ :88]، لذا ينبغي أن يتطلع الإنسان عموما، وطالب النفوذ خصوصا، إلي استقلال الشخصية في قوتها ونموها، ولا يتحقق هذا إلا بشرطين: إطلاق الحرية وتنوع المواقف.

ولا يختلف الناس علي أهمية هذا المبدأ وإنما علي درجة وجوبه، فليس منهم من يقول بوجوب أن نقلد بعضنا بعضا دائما، ولا بوجوب أن نترسم خطي الآخرين، ويرون في نفس الوقت أنه من السخف والحمق أن نعرض تماما عن تجارب الآخرين، إذن المطلوب أن يتمتع البالغ الرشيد بحرية الانتفاع من تلك التجارب وفي تأويلها والاختيار منها، ذلك أن تجارب الآخرين قد تكون ضيقة أو أسيء تأويلها، وربما لم تعد صالحة للظروف والأوضاع الحاضرة.

يتميز الإنسان عن الحيوان بالإدراك والفطنة والتمييز والنشاط العقلي والعطفة الأدبية، ولا يظهر هذا، ولا تعن له فرصة التمرن والعمل إلا عند الاختيار والممارسة، والعادة تعوق استعمال ملكة الاختيار ، ولا تنمو القوي الأدبية إلا بالمران، وإذا أتي المرء أفعاله بدون دوافع من عواطفه وسجيته، تبلدت وخمدت عواطفه وسجيته،

" الذي يفوض إلي الناس اختيار طريقته في الحياة لا يحتاج من المواهب إلا خصلة واحدة امتازت بها القرود؛ أعني ملكة التقليد، أما الذي يختار طريقته بنفسه فإنه يستعمل كل ما أوتي من مواهب، ويستخدم كل ما ركب في فطرته من صفات، والواقع أن هذا الاختيار يتطلب من صاحبه أمورا عدة: أولها التأمل وهو يقتضي إعمال ملكة الملاحظة، ثم التبصر وهو يستلزم إجالة الروية وإنعام النظر، ثم جمع المقدمات للحكم وهذا يتطلب إعمال ملكة التمييز، ثم التمسك بالحكم بعد إصداره ولهذا ينبغي إعمال قوة الثبات والحزم، وكلما عظم مقدار التصرفات التي يجري فيها الإنسان علي حكم اختياره وعلي مقتضى شعوره عظمت حاجته إلي تلك المواهب والملكات، وعلي قدر ذلك يكون استعماله إياها وانتفاعه بها" [ :90].

إذن أجل الأعمال التي ينبغي أن توقف الحياة البشرية علي إبلاغها ذروة الحسن وغاية الكمال، هو نفسي الإنسان، وهي ليست آلة تصنع علي نحو معين، وتدار لتؤدي عملها بطريقة آلية، إنما هي شجرة نمو.

حجة ضد الشهوات والعواطف: هنا اعتراض: نقبل أن يستعمل الإنسان عقله، وأن يتبع أو أن يخالف العادات علي هدى وبصيرة، ولكن ينبغي أن لا يكون حرا فيما تدفعه إليه شهوته وعواطفه.

الشهوات والعواطف جزء لا يتجزأ من طابع الإنسان، ولا تطغي إلا عند اختلال التوازن لصالحها، " السبب الحقيقي فيما يقترف الناس من القبائح ليس قوة الشهوات، ولكنه ضعف الضمائر، وليس هناك أدني تلازم طبيعي بين قوة الشهوة وضعف الضمير"، فقوة النزعات تعني النشاط والهمة، ويمكن توجيهها إلي الخير أو الشر، إلي الفضيلة أو الرذيلة، إذن المطلوب تربية قوة الإحساس، ولا يكون ÷ذا إلا مع استقلال الشخصية، وإذا كان طغيان هذه القوي في الماضي، نتيجة سمو الفرد علي المجتمع بفعل القوة البدنية والمادية، استلزم قيام القانون والنظام للسيطرة علي الإنسان بأسره، وعلي حياته، فاليوم المجتمع أسمي من الفرد وأقوي، فأضحي الخطر الذي يهدد الطبيعة البشرية ليس غلو وبطش البواعث بل ضعفها وعجزها، لقد أضحت الجماعة محل اعتبار الفرد في كل خلجاته.

حجة ضد النظرية الكالفينية: تري الكالفينية أن الإرادة الحرة أسوأ خطيئات البشر، وأن أقصي ما تستطيعه الطبيعة البشرية من خير هو الطاعة المطلقة، فقدر الإنسان أن لا يختار، أن يفعل ما يؤمر به وأن يتجنب ما ينهي عنه، فالطبيعة البشرية مجلوبة علي الشر، ومن ثم ينبغي محق ما هو مركب في طبيعة الإنسان من المواهب والملكات والقابليات، وهناك صور مخففة من الكالفينية تبيح للناس التمتع باللذات ولكن طبقا لتوجيهات سلطة أعلي.

إذا كان الدين يدعونا إلي الاعتقاد في أن خالق الإنسان حكيم عليم، فالأولي بنا أن نوقن بأن هذا الخالق لم يمنحنا تلك المواهب والملكات لكي نهملها ونتلفها، بل لكي نحوطها ونتعهدها، ولأنه جل شأنه يسر ويبتهج كلما رآنا نقترب إلي تحقيق ما ركب في طباعنا من المثل العلا، وكلما وجدنا نتقدم في إنماء ما غرس في فطرتنا من قوة الفهم والعمل والاستمتاع.

إذن هناك نوع من الكمال يخالف ما تدعو إليه النظرية الكالفينية، وهناك مذهب يقول أن الإنسان ما منح المواهب والطباع لمحوها واستئصالها، بل لأغراض أسمى ومآرب أعلى، وإذا كان إنكار الذات أحد عناصر شرف الإنسان ونبله، فلا يقل عنه شأنا ولزما إثبات الذات، وليس في تنمية النفس وترقية الذات ما يناقض رياضة النفس وضبط الذات، بل هما قابلان للامتزاج والالتئام [ :96].

" علي قدر ارتقاء شخصية الإنسان تزيد قيمته وفائدته لنفسه، وبالتالي يصير قادرا علي زيادة قيمته وفائدته لغيره، وكلما كانت حياة الفرد أكثر امتلاء، وأوسع نطاقا، كانت حياة المجموع المؤلف من هؤلاء الأفراد أغزر مادة، وأفسح مجالا" [ :97]،

الاعتراض أن التقييد الذي توجبه ضرورة الرعاية لمصالح الغير، يصيب الأفراد بالخسران بأن يسد في وجوههم بعض أبواب النمو، ويقطع عنهم طائفة من أسباب الرقي.

إطلاق الحرية يؤدي إلي تقييد أشد، فإذا أعطي كل فرد مطلق الحرية لاستحال أن يكون لأي منهم حرية ( حجة هوبز)، وإذا كان التقييد يحاصر الشق الأناني من طبيعة الإنسان فإنه يمكنه من تنمية الشق الاجتماعي، فإجبار الفرد علي التزام الإنصاف في معاملة الغير جدير بأن يرقي في نفسه العواطف والصفات التي من شأنها حب الخير للناس، والتي غايتها جلب المنفعة للغير، علي أن لا يكون التقييد لمجرد الاستياء من هذه الحرية، إذا خضع الإنسان لذلك التقييد سرعان ما تتبلد خواطره وتسقط همته،

3. حجة منفعة الغير ( الرفاه الاجتماعي): هذه هي حجة المكون الأساسي للتقدم الإنساني، وهي حجة عواقب غير مباشرة، ، تبرر الفردية بالآثار غير المباشرة لكون المرء فرديا بين أناس فرديين،وقد مدها هايك إلي التقدم الاقتصادي.

لكي ينفسح مجال النمو لطبائع البشر لا بد أن تتنوع أساليب الحياة تبعا لاختلاف البشر، فإذا أطلقت حرية التصرف للناس استطاع النابغون منهم الاهتداء إلي أفضل أساليب المعيشة، وإذا فسح المجال للأشياء غير المألوفة اتضح أيها جدير بالتسجيل في ديوان العرف، أي تمكين الناس من الاهتداء إلي أرقي أساليب المعيشة، والوقوف علي كل صالح من العادات والتقاليد.

حجة قيمة وندرة الابتكار: لم يبلغ الناس أوج الكمال في تصرفاتهم ومناهجهم، والابتكار أو العبقرية عنصر نفيس في الشئون البشرية، ففضلا عن حاجة الناس إلي من يفتح بصائرهم لاجتلاء مكنون الحقائق والتنبيه إلي فاسد الآراء، يحتاجون أيضا إلي من يسن لهم عادات جديدة ويشرع لهم أمثلة راقية تزيد سلوكهم استقامة وذوقهم تهذيبا وشعورهم إرهافا.

تنزع أفضل العقائد وأجمل العادات إلي الانحطاط إلي منزلة الآليات، وما لم يتداركها أفراد من النوابغ، ينفخون فيها من روح عبقريتهم، ويدفعون عنها آفة النسيان، ويجلون أسرارها للأذهان، أصبحت بمنزلة التقاليد الميتة، ولم تستطع مقاومة أيسر صدمة من أي شيء فيه روح الحياة الصادقة، وحينئذ لا يكون ثمة أدني مانع يحول دون تلاشي المدنية وانطفاء سراجها، كما حصل في عهد الإمبراطورية البيزنطية.

ومع ندرة العباقرة، فإنهم لا ينمون إلا في تربة الحرية وجوها، ولما كانت شخصية العبقري قوية، فهو أقل الناس احتمالا للتكيف مع الأوضاع المألوفة والأنظمة المعتادة، فإذا استسلم لإكراه المجتمع جبنا وخرقا، عجز عن النمو، ولم يستفد المجتمع من عبقريته شيئا مذكورا، وإن عطي وتمرد صار عبرة للناس فينبذونه ويحذرون منه.

المشكلة أن الناس يجلون العبقرية في الشعر والأدب والفن، ولا يولونها اعتبارا بمعناها الصحيح: الابتكار في الفكر والفعل، وإن تظاهروا بإجلالها، إذ لا يدركون منفعة الابتكار، مع أن جميع الأشياء الطيبة في هذه الحياة إن هي إلا ثمرات الابتكار ومولودات العبقرية، وكلما قل شعور الناس بالحاجة إلي الابتكار كان افتقارهم إليه أشد، وحاجتهم إلي معونته أمس، وفي ظل سيرة الجمهور، أو الحكومة التي تعبر عن الرأي العام؛ تاهت قوة الفرد وتلاشت، هذا الجمهور هو الطبقة المتوسطة، التي لا تتلقى آراءها عن أقطاب الدين وأعلام السياسة ومشاهير القادة وقيم الكتب، وإنما يتلقونها من رجال من طبقتهم يخاطبونهم علي صفحات الجرائد كلما سنحت الفرصة وعلي جناح السرعة، ولا تستطيع حكومة الطبقة المتوسطة إلا أن تكون متوسطة، في أعمالها السياسية، وآرائها وخصائصها، إلا إذا استسلمت حكومة الأكثرية لإرشاد فرد أو أقلية ممن هم أغزر علما وأكبر عقلا، فتأمر بأوامرهم وتنصح بنصائحهم، ليس هذا دعوة إلي مبدأ " عبادة الأبطال" الذي يمتدح الجبابرة من أصحاب العبقرية لاغتصابهم أزمة الحكم، وإرغامهم الشعوب علي اتباع أوامرهم عنوة واقتسارا، با لويلات البشرية من هذا المبدأ! إنما كل ما يجوز لصاحب العبقرية أن يدعيه: حرية الإرشاد إلي السبيل القويم.

حجة عقبة التقدم: لكل فرد، نابغا أو غير نابغ، الحق في انتهاج المسلك الذي يختاره، كل الناس في هذا سواء، إذ لا يوجد مطلقا ما يدعو إلي أن تكون طريقة معيشة الناس واحدة، أو محصورة في عدد محدود من الطرز، فما يكون صالحا لفرد قد لا يكون صالحا لسواه، ولو تشابه الناس خلْقا وخلقا لجازت المماثلة بينهم في أساليب المعيشة، والحمد لله أنه لا يجمع بينهم تماثل الأغنام، ولا يقتصر اختلاف الناس علي اختلافهم في الأذواق، ولكنه يمتد إلي الطبائع، فلا بد من تنوع الظروف لتنمو الطبائع، كما يختلف الناس في تأثرهم بالظروف.

لكن الرأي العام شديد التعصب وعظيم التحامل علي أي مظهر من مظاهر استقلال الشخصية، فمعظم العامة معتدلو العقول معتدلو الميول، ومن يخالف العامة يصير " مضغة " في الأفواه، وموضوعا للغمز واللمز،

" لا يزال استبداد العدة في كل مكان العقبة الكؤود في سبيل التقدم البشري، فالعادة بطبيعتها منافية لتلك النزعة التي تطمح إلي الارتقاء عن المألوف، والتي تسمي بحسب الظروف تارة روح الحرية وتارة روح الإصلاح" [ :108]،

قد ترمي روح الإصلاح إلي إرغام شعب علي قبول ضروب من الإصلاح، لا يريدها، وعندما تقاوم روح الحرية هذه الجهود فإنها تنافي روح الإصلاح، وقد تحالف أعداء الرقي محالفة وقتية محلية، إلا أن مبدأ التقدم، سواء تجلى في حب الحرية أو حب الإصلاح، ينابذ سلطان العادة، أو علي الأقل يطالب بخلع نيرها وصدع أغلالها.

وقد تتقدم الأمة زمنا ثم تتوقف عندما تستبد العادة، ويضيع استقلال الشخصية، وكان هذا جليا أيام ميل في شعوب الشرق الأقصى وبالذات الصين،

" إن طريقة استبداد الرأي العام تفعل اليوم بأسلوب غير منظم ما فعلته طرائق التعليم والسياسة في بلاد الصين بأسلوب منظم، فإن لم تستطع قوة الشخصية مقاومة هذا الاستبداد وتحطيم قيوده، فإن أوربا علي رسوخ قدمها في الحضارة ومع تمسكها بآداب الدين، صائرة لا محالة إلي مصير الصين" [ :111]،

ما حال بين أوربا وهذا المآل هو التفاوت البين في ضروب الأخلاق وأساليب التهذيب، وإن تقارضوا الحقد، وأظهروا التعصب، ولكنها ميالة إلي فقدان مزية التنوع في المذاهب، ينزع الناس اليوم إلي التشابه أكثر من نزوعهم إلي التباين،

" كان أهل الطبقات والأحياء والصناعات والمهن المختلفة في الماضي يعيشون كأن من جميع الوجوه في عوالم مختلفة، أما اليوم فهم يعيشون من وجوه كثيرة في عالم واحد، لا فرق بينهم علي الجملة فيما يقرؤون، وفيما يسمعون، وفيما ينظرون، وفيما يذهبون إليه من الأماكن، وفيما تتجه إليه آمالهم ومخاوفهم من الأغراض، وفيما لهم من الحقوق والحريات، وفيما يملكون لتقريرها من الوسائل، ومهما عظمت الفوارق التي لا تزال باقية، فهي لا تعد شيئا مذكورا بجانب ما قد ذهب، هذا إلي جانب أن عوامل التشابه والمماثلة لا تزال تفعل فعلها، يؤيدها كل ما يقع في هذا العصر من التطورات السياسية، لأن جميع هذه التطورات ترمي إلي رفع الوضيع وخفض الرفيع، ويؤيدها كل توسع في نطاق التعليم، لأن التعليم يجمع مختلف الأفراد تحت مؤثرات واحدة، … ويؤيدها كل تحسن في طرق الاتصال، … ويؤيدها كل ازدياد في نشاط التجارة والصناعة، لأنه يضاعف أسباب الرخاء … علي أن هناك عاملا أبلغ من كل ما تقدم نفوذا وأقوي سلطانا في تأكيد حركة التقريب والمماثلة بين أفراد البشر، وهو جعل السيادة المطلقة في شئون الحكم للرأي العام" [ :112- 113].

4. حجة المجال الخاص والمجال العام: السؤال ما هي حدود سلطة المجتمع علي الفرد؟ جواب ميل هو: يستوفي كل من الفرد والمجتمع حقه الواجب " إذا اقتصر علي ما يعنيه بوجه خاص، فكل ما يهم الفرد بنوع خاص فهو من حق الفرد، وكل ما يخم المجتمع بوجه خاص فهو من حقوق المجتمع" [ :115]، فإن لم يكن أساس المجتمع عقد، فإن من يعيش في كنف المجتمع ويتمتع بحمايته مدين له بما يناظر هذا، كما العيش في مجتمع واحد يتم أن ينتهج كل واحد مع الآخرين نهجا معينا، فعلي الفرد: ( 1 ) أن يتحاشى الإضرار بمصالح الغير، المصالح التي تعد حقوقا ثابتة إما بالقانون أو بالتفاهم الودي، ( 2 ) أمن يتحمل نصيبه العادل من المتاعب والتضحيات التي تقتضيها حماية المجتمع وأعضائه من الضرر والاعتداء، " للمجتمع الحق في اقتضاء هذه الواجبات مهما تكلف الأمر، ومهما أضر ذلك بمن قد يحاول التملص منها" [ :115]، فإن أتي الفرد من التصرفات ما يكون فيه إضرار بالغير أو إخلال بواجب الرعاية لصالحهم، وإن لم يحصل من الشر ما يصل إلي حد الاعتداء علي حق من حقوقهم المقررة، في هذه الحالة يسوغ للمجتمع أن يعاقب المعتدي بسلاح الرأي العام لا بسلاح القانون [ :116]، ليس هذا دعوة إلي الأنانية وعدم الاكتراث بشئون الغير، فمن واجب المرء أن يبذل قصارى جهده في الاهتمام بمصلحة الغير وإرشادهم إليها، وليس له حق حملهم عليها.

حجة ما حك جلدك مثل ظفرك: كل واحد أشد اهتماما بمصلحته وأقل اهتماما بمصلحة الغير، ما لم تكن له بهم علاقة شخصية وثيقة، واهتمام المجتمع بشئون الفرد، فيما عدا ما يتعلق بسلوكه مع الغير، اهتمام جزئي، ليست له صفة مباشرة علي الإطلاق، والمرء أبصر وأعلم بشئونه وأموره من كل إنسان آخر،

" إذا عمد المجتمع إلي التدخل في شئون الأفراد والتسلط علي آرائهم وأغراضهم في أحوالهم الخاصة فإنه لن يستطيع أن يهتدي في تدخله هذا إلا بالفروض العامة، وغير بعيد أن تكون هذه الفروض مخالفة للصواب كل المخالفة، وإذا فرضنا جدلا أنها صائبة، فمن المحتمل جدا أن يقع خطأ في تطبيقها علي الحالات الفردية متى كان القائمون بتطبيقها لا يعلمون من ظروف هذه الحالات غير الظاهر دون الباطن، فينبغي إذن في كل الأحوال أن يكون الفرد صاحب الرأي الأعلى" [ :117].

حجة التمييز بين صفات الفرد الشخصية وطابعه الخبيث: لا يعني ما سبق أن صفات الفرد الشخصية وعيوبه الذاتية لا يجوز أن تؤثر البتة في رأي الناس فيه وشعورهم نحوه، فهذه الصفات مبعث المدح أو الذم، وإذا كان المدح نافعا فالذم أنفع، يحذر المرء من العواقب السيئة التي قد يتعرض لها، كما يحق للمرء أن يتصرف طبقا لرأيه في الشخص الآخر، علي أن لا يكون هذا علي سبيل الاضطهاد، فلست مكرها علي التماس مودة شخص تراه سيئا، فلكل إنسان حرية اختيار من يصاحب، وعليه واجب أن يحذر الآخرين من صحبة من تضر صحبتهم أكثر مما تنفع، ويجوز له أن يفضل الآخرين عليه في المساعي الصالحة والخدم النافعة، ما عدا تلك التي يكون فيها إصلاح فساده وتقويم اعوجاجه،

" هذه العواقب إنما تنال الفرد باعتبارها نتائج طبيعية لنفس العيوب، لا باعتبارها واقعة عليه عمدا بقصد التنكيل به والثأر منه" [ :119]،

فماذا ينتظر الأحمق والمغرور والمتعجرف وغير المعتدل والمتهافت علي اللذات البهيمية، ماذا ينتظر من الناس سوى الحط من منزلته في أعينهم، والانتقاص من حظه الجميل في رأيهم،

" وليس له حق الاعتراض علي هذا والشكاية منه ما لم يكن قد استوجب حسن ظنهم واستحق جميل اعتقادهم ببعض فضائله الاجتماعية فأصبح له بذلك حق واجب عليه لا تؤثر فيه عيوبه الذاتية" [ :119]،

"[ أما ] التعدي علي حقوق الناس، وإصابتهم في نفوسهم أو في أموالهم بالفقد أو بالأذى من غير مسوغ مشروع، والتذرع بالكذب أو بالغش عند التعامل معهم، والانتفاع من طريق الظلم أو اللؤم بما يكون للمرء من مزايا عليهم، بل مجرد الامتناع لغير علة مقبولة عن دفع الشر عنهم؛ كل ÷ذه أمور حقيقة بأن تعرض فاعلها للتوبيخ الأدبي، وجديرة في الحالات الخطيرة بأن تعرضه للجزاء القانوني، وليس الأمر مقصورا علي هذه الأفعال، بل إن الصفات التي تؤدي إلي ارتكابها صفات خبيثة، خليقة أن تقابل بالاشمئزاز والتأنيب" [ :120]،

فمن الرذائل الخبيثة: القسوة والحقد واللؤم والحسد والرياء والنفاق والطمع وفرط الغضب لأتفه الأسباب وحب التسلط علي الغير والكبر والأنانية، وليست هذه كالصفات الشخصية التي قد تكون برهانا علي اتصاف صاحبها بالحمق وعدم الكرامة وفقد الهيبة، ولكنها لا تجيز التوبيخ الأدبي إلا إذا ترتب عليها إخلال ببعض واجبات الفرد نحو غيره مما تقضي عليه حقوقهم أن يعني بنفسه،

" إذا ساءنا شخص لاتصافه بعيب ذاتي فقد يجوز أن نفصح عن استنكارنا إياه، ، وقد يجوز أن نتجنبه كما نتجنب محذور ومكروه، ولكننا لا نشعر من أجل ذلك بأن الواجب يدعونا إلي تنغيص عيشه وإقلاق راحته، بل نقول في أنفسنا حسبه جزاء أنه يذوق، عاجلا أو آجلا، تبعة أعماله ومغبة أفعاله، فإذا كان قد أفسد معيشته بسوء التصرف فغير جدير بنا من أجل هذا السبب أن نزيدها فسادا، وبدلا من أن نرغب في عقابه وتعذيبه نري من أنفسنا ميلا إلي تخفيف آلامه وتهوين مصابه بإرشاده إلي سبيل الخلاص من عواقب سلوكه الوخيمة، فهو قد يحرك فينا عاطفة الرحمة، ولربما أثار منا عاطفة البغض، ولكنه لن يبعث فينا بحال من الأحوال عاطفة الحنق أو الحقد، ولن يضطرنا إلي معاملته معاملة عدو المجتمع، بل نري أن أقسى معاملة يجوز إنزالها به: إلقاء حبله علي غاربه، هذا إن لم نتدخل في شئونه بالحسنى، وإن لم نظهر له اهتماما بخيره واكتراثا بمصلحته" [ :121- 122]،

"[ أما ] إذا كان الشخص قد انتهك بعض النواميس اللازمة لحماية إخوانه، سواء كان هذا الانتهاك يمس فردا بعينه، أم يمس المجتمع بأسره، فإن ما ينشأ عن تصرفاته في هذه الحالة من العواقب السيئة لا يقع عليه، بل يصيب الغير، فيتحتم علي المجتمع، بصفته حاميا لجميع أعضائه، أن يضرب علي يد هذا المعتدي، وأن يقصد صراحة إلي عقابه، فيوقع به الأذى، وينزل به العقاب، مع العناية بأمن يكون العقاب من الشدة والصرامة بالمبلغ الكافي وبالقدر الوافي، والواقع أن الشخص يقدم إلينا في هذه الحالة علي أنه مجرم أثيم، ونحن مطالبون بأن لا نقتصر بالحكم عليه حتى ننفذه فيه بشكل من الأشكال" [" 122].

حجة الضرر العرضي: هنا يثار اعتراض: أفعال المرء في الدائرة الخاصة به لا يقتصر ضررها عليه بل يمتد إلي ذوي قرباه علي الأقل، فإذا خسر مالا مثلا أضر بمن يتلقون منه معونة مباشرة أو غير مباشرة، وكان في ذلك إنقاص يسير أو كبير لموارد الأمة بوجه عام، وإذا ألحق عطبا بحسده أو عقله، فلن يقتصر الضرر علي من يستمدون من حياته جزءا من سعادتهم، بل سيعجز عن الوفاء بواجباته نحو المجتمع بوجه عام، وربما صار عالة علي إخوانه، وإذا انتشر هذا السلوك بين الناس لم تكن جريمة من الجرائم أشد منه إفسادا للمصلحة العامة وإتلافا لخير الجماعة، وإذا افترضنا أن رذائل وحماقات المرء لا تضر غيره مباشرة، فأقل ما في الأمر أنه يضر سواه بالعدوى الوبيئة والقدوة السيئة، ولذا يجب إكراهه علي ضبط نفسه مراعاة لمصلحة أولئك الذي يُستهدفون للفساد أو الضلال عند النظر إلي سلوكه أو العلم بتصرفاته، وإذا كانت عواقب سوء السلوك لا تتجاوز أصحاب الرذيلة والطيش والطيش أيتركهم المجتمع ينطلقون في عنان الغواية ويتخبطون في بيداء الضلالة؟ وإذا كان المجتمع يحمي الأطفال والقصر، ألا يحمي أولئك الذين كالأطفال في العجز عن ضبط أنفسهم وتدبير شئونهم؟ إذا كانت المقامرة والقذارة والسكر والدعارة والسفه والبطالة من الآفات المزرية بالسعادة والعقبات المعرقلة للتهذيب ( سنناقشها تفصيلا فيما بعد) شأن كثير من أو أغلب الأفعال المحظورة بنص القانون، فلماذا لا يقمعها المشرع قدر الطاقة وقدر ما تسمح به حالة المجتمع، ولماذا لا يسد الرأي العام ما تركه المشرع من فراغ؟ لا نرمي إلي منع الابتكار بل إلي منع أمور خبرتها البشرية وتقرر إنكارها، أمور أثبتت التجارب عدم نفعها وعد صلاحيتها لشخص أي امرئ كان [ :123- 124].

يعترف ميل بتعدي الضرر الذي يصيب المرء إلي ذوي قرباه، سواء من طريق المصالح أو من طريق العواطف، ، وإلي المجتمع وإن كان تأثيره طفيفا، ويضع القاعدة:

" كل من يخل بواجب الرعاية لمصالح الغير وعواطفهم، دون أن تضطره إلي ذلك لعض الواجبات التي هي أشد لزوما، أو دون أن يبرره في ذلك ما يسمح به الحق والعدل من الإيثار لمصلحة نفسه، كان عرضة للجزاء الأدبي، لكن لا من أجل العيوب الشخصية المحضة التي تكون قد أدت من طريق بعيد إليه، وكذلك إذا تصرف إنسان تصرفا ذاتيا محضا، وترتب علي هذا التصرف عجزه عن تأدية بعض واجباته المقررة للجمهور، فقد ارتكب جريمة اجتماعية، فمثلا ]عند ميل] ليس من الحق أن يعاقب إنسان لمجرد السكر، ولكن الجندي أو الشرطي الذي يسكر وهو قائم بواجبه جدير بالعقاب، والخلاصة أنه كلما كان ضرر معين أو خطر معين، إما لأحد الأفراد أو للجمهور، فإن الحالة تخرج من دائرة الحرية وتدخل في نطاق الآداب أو القانون" [ :125].

أما الضرر العرضي البحت الذي يحصل عندما يتصرف المرء تصرفا لا يخل بأي واجب معين نحو الجمهور، ولا يلحق أدني أذى محسوس بأحد آخر غير نفسه، فهو ضرر تافه خليق بالمجتمع أن يتحمله عن طيب خاطر مقابل ما ينشأ عن الحرية من الخير العميم، ولئن أريد عقاب البالغين لإهمالهم في حق أنفسهم، فليكن ذلك صراحة من باب الرعاية لمصلحتهم الذاتية، لا بدعوى منعهم من تعجيز أنفسهم عن خدمة المجتمع في أمور لا يدعي لنفسه حق اقتضائها منهم [ :125].

لكن ميل لا يسوغ للمجتمع تأديب البالغين من باب الرعاية لمصالحهم الذاتية، فقد كان في وسعه أن يحسن تأديبهم في الشطر الأول من حياتهم، فقد كانوا تحت سلطته المطلقة ونفوذه التام، إذ يملك الجيل الحاضر مستقبل الجيل القادم، فهو الذي يتولى تدريبه وتعليمه، وهو الذي يهيئ له جميع ظروفه [ :126]، ومع أن الجيل الحاضر لن يبلغ بالجيل المقبل مرتبة الكمال صلاحا وعلما، ففي وسعه جعلهم مثله أو أحسن منه قليلا، فإن قصر المجتمع في هذا فلا يلومن إلا نفسه علي الإهمال، ولا تصلح الوسائل السيئة لإصلاح السلوك، فإذا كان من يراد إكراههم علي الأخذ بالعزم أو الاعتدال من ذوي القوة والاستقلال، فلن يطأطئوا الرءوس، ولن يسلموا زمام الطاعة، حتى يصير من أمارات الهمة والشجاعة الخروج علي تلك السلطة المستبدة، والمجاهرة بإتيان ما يناقض أوامرها علي خط مستقيم.

لا ريب أن القدوة السيئة قد تؤثر تأثيرا مفسدا، لا سيما إذا كان صاحبها يلحق أذي بالغير وهو في مأمن من كل عقاب، والحديث هنا عن ضرر عظيم يلحق بصاحبه فحسب، ومن ثم فهو قدوة للإصلاح أكثر منه قدوة للإفساد، يري فيه الناس عبرة مؤلمة ومخزية.

وإذا تدخل الجمهور في الشئون الشخصية، فإنه يسيء في كيفية التدخل وفي اختيار موضعه، فالجمهور عندما يحكم علي السلوك الذاتي لشخص لا ينظر إليه من وجهة نظر صاحبه وميوله ومصلحته، بل من وجهة نظر الجمهور نفسه وميوله ومصلحته، قد يتصور المرء " جمهورا مثاليا"، فأين هذا الجمهور المثالي، والجمهور عندما يفكر الأمور الذاتية إنما يفكر في شناعة الشذوذ عنه في الشعور أو التصرف، يلبس أهواءه وعواطفه لباس القوانين الخلقية ويصيغها في شرائع أدبية [ يضرب ميل أمثلة كثير هنا: 128- 138].

تطبيقات عملية لمبدأ الحرية

 

 


الموقع

بيانات شخصية

المقررات الدراسية

التحليل السياسي

البحوث العلمية

إعادة بناء المشروع العلمي لأفلاطون

مشروعات المجتمع الجديد

أنباء وآراء

واحة التدريب

El Sayed A.M.A. Ghanem
Copyright © 2001 by Ghanem. All rights reserved.
Revised: 15 Oct 2001 22:24:41 .
Retrieved: